وأمَّا التَّشْدِيدُ في الآخِرَة، وهو قوله :﴿ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾ لما وصَفَ طَريقَةَ الكُفَّارِ والجُهَّال من اليَهُودِ، وصَفَ طَريقَة المُؤمِنِين المُحِقِّين مِنْهُم، فقال :﴿ لكن الراسخون فِي العلم ﴾ جيء هنا ب « لَكِنْ » لأنها بين نقيضين، وهما الكفارُ والمؤمنون، و « الرَّاسِخُونَ » مبتدأ، وفي الخبر احتمالان :
أظهرهما : أنه « يُؤمِنُونَ ».
والثاني : أنه الجملة من قوله :« أولَئِكَ سنؤتيهم »، و « فِي العِلْمِ » متعلقٌ ب « الرَّاسِخُونَ ». و « منْهُمْ » متعلِّق بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من الضميرِ المستكنِّ في « الرَّاسِخُونَ ».
فصل
مَعْنَى الكلام : لَيْسَ أهْلُ الكِتَابِ كُلُّهُم بهذه الصِّفَةِ، لكنِ الرَّاسِخُونَ المُبَالِغُون في العِلْمِ مِنْهُم أولُو البَصَائِر، وأراد به : الذين أسْلَمُوا؛ كعَبْد الله بن سلام وأصْحَابه.
قوله تعالى :﴿ والمؤمنون ﴾ عطفٌ على « الرَّاسِخُونَ »، وفي خبره الوجهان المذكوران في خبر « الرَّاسِخُونَ » ولكن إذا جَعَلْنا الخبرَ « أولَئِكَ سَنُؤتِيهِمْ »، فيكون يؤمنون ما محلُّه؟ والذي يَظْهر أنه جملة اعتراض؛ لأنَّ فيه تأكيداً وتسديداً للكلام، ويكون الضَّمير في « يُؤمِنُونَ » يعود على « الرَّاسِخُونَ » و « المُؤمِنُونَ » جميعاً، ويجوز أن تكون حالاً منهما؛ وحينئذٍ لا يُقال : إنها حال مؤكِّدة لتقدُّم عاملٍ مشاركٍ لها لفظاً؛ لأنَّ الإيمانَ فيها مقيَّدٌ، والإيمانُ الأولُ مُطْلَقٌ، فصار فيها فائدةٌ، لم تكُنْ في عاملها، وقد يُقَالُ : إنها مؤكِّدة بالنسبةِ لقوله :« يُؤمِنُونَ »، وغيرُ مؤكِّدة بالنسبة لقوله :« الرَّاسِخُونَ »، والمراد ب « المُؤمِنُونَ » المهاجُرونَ والأنْصار.
قوله سبحانه :« والمُقِيمينَ الصَّلاةَ » قرأ الجمهورِ بالياء، وقرأ جماعة كثيرة :« والمُقِيمُونَ » بالواو؛ منهم ابن جُبَيْر وأبو عَمْرو بن العلاء في رواية يونُسَ وهارُونَ عنه، ومالك بن دينار وعصمة عن الأعمش، وعمرو بن عبيد، والجَحْدَرِي وعيسى بن عُمَر وخلائق. فأما قراءةُ الياء، فقد اضطربَتْ فيها أقوالُ النحاة، وفيها ستةُ أقوال :
أظهرها - وعزاه مكيٌّ لسيبويه، وأبو البقاء، للبصريين - : أنه منصوبٌ على القَطْع، يعني المفيد للمدْحِ؛ كما في قطع النعوتِ، وهذا القطعُ في قوله « والمُؤتُونَ الزَّكَاةَ » على ما سيأتي هو لبيانِ فَضْلِها أيضاً، لكنْ على هذا الوجه يجبُ أن يكونَ الخبرُ قوله :« يُؤمِنُونَ »، ولا يجوز قوله « أولَئِكَ سنُؤتِيهِمْ »، لأن القطع إنما يكون بعد تمامِ الكلام، قال مكي :« ومَنْ جَعَلَ نَصْبَ » المُقِيمِينَ « على المدح جعل خبرَ » الرَّاسِخِينَ « :» يُؤمِنُونَ «، فإنْ جَعَل الخبر » أولَئِكَ سنُؤتِيهِمْ « لم يجز نصب » المُقِيمِينَ « على المدح، لأنه لا يكون إلا بعد تمام الكلام ».