أمَّا إذا نَزَل الكتابُ مُنَجَّماً مُفَرَّقاً، سَهُل قُبُولُه للتَّدرِيجِ، فحينئذٍ يَحْصُل الانْقِيَادُ والطَّاعةُ من القَوْمِ، فكان اقْتِرَاحُ اليَهُودِ إنْزَالَ الكِتَابِ دفعَةً واحِدَة اقْتِراحاً فاسِداً
ثم قال :﴿ وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً ﴾ يعني : هذا الذي تَطْلُبُونَه من الرسول أمْر هَيِّنٌ في القُدْرَةِ، وإنما طَلَبْتُمُوه على سَبِيلِ اللِّجَاجِ، وهو - تعالى - عَزِيزٌ، وعِزَّتُهُ تَقْتَضِي ألا يُجَابَ المُتَعَنِّتُ إلى مَطْلُوبِه، وكذَلِك حِكْمَتُه تَقْتَضِي هذا الامْتِنَاع؛ لِعلْمِهِ - تعالى - بأنَّهُ لو فَعلَ ذلك لبَقَوْا مُصرِّين على اللِّجَاج؛ لأنه - تعالى - أعْطَى مُوسى - [ ﷺ ] - هذا التَّشْرِيف، ومع ذلك أصَرُّوا على المُكَابَرة واللِّجَاج.

فصل


احْتَجُّوا بهذه الآيةِ على أنّ معرِفَة اللَّهِ - تعالى - لا تثبت إلا بالسَّمْع؛ لأن قوله :﴿ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل ﴾ يدلُّ على أنَّ قَبْل البَعْثَةِ يكُونُ للنَّاسِ حُجَّة في تَرْك الطَّاعَاتِ، ويؤيِّدُه قوله - تعالى - :﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾ [ الإسراء : ١٥ ]، وقوله :﴿ وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لولاا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونخزى ﴾ [ طه : ١٣٤ ].

فصل شبهة للمعتزلة وردها


قالت المعتزلة : دلَّت هذه الآيةُ على أن العَبْد قد يَحتَجُّ على الربِّ - سبحانه وتعالى - وأنَّ الذي يَقُولُه أهْل السُّنَّةِ من أنَّهُ تعالى لا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ في شَيْءٍ، وأنَّه يَفْعَلُ ما يَشَاءُ كما شَاءَ لَيْس بِشَيْءٍ؛ لأن قوله :﴿ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل ﴾ يَقْتَضِي أنَّ لَهُم حُجَّة على الله قَبْلَ الرُّسُل، وذلك يُبْطِل قول أهْلِ السُّنَّة.
والجواب : أن المُرادَ ﴿ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله ﴾ أي : فيما يُشْبِهُ الحُجَّة فِيمَا بَيْنَكُم.

فصل شبهة للمعتزلة وردها


قالت المُعْتَزِلَةُ : دلَّت الآيةُ على أنَّ تكْلِيفَ ما لا يُطَاق غَيْر جَائِزٍ؛ لأن عدم إرْسَالِ الرُّسُلِ إذا كان يَصْلُح عُذْراً، فبأن يَكُون عدمُ المُكْنَةِ والقُدْرَة صَالِحاً لأنْ يكُونَ عُذْراً أولى.
والجواب : بالمُعَارَضَةِ بالعِلْمِ.


الصفحة التالية
Icon