وقيل : هو مُضَمَّنٌ معنى صَيَّرَ وجعل، فيتعدَّى لاثْنَيْن؛ أولهما :« الإسْلاَمَ » والثاني :« دِيناً ».
« لكم » يجُوز فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلق ب « رَضَيَ ».
والثاني : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ؛ لأنَّه حالٌ من الإسلامِ، ولكنَّه قُدِّمَ عليه.
ومعنى الكلام أنَّ هذا هو الدينُ المرضِيُّ عند الله، ويُؤكِّدُهُ قوله تعالى :﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾ [ آل عمران : ٨٥ ].
وقوله تعالى :﴿ فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ ﴾ قد تقدم الكلامُ عليها في البقرة [ آية : ١٧٣ ].
و « فِي مَخْمَصَةٍ » متعلقٌ ب « اضْطُرَّ »، [ ومعنى :« اضْطُرَّ » ] أُصِيبَ بالضر الذي لا يمكنه الامتناعُ معه من الميتةِ.
و « المخمصةُ » : المَجَاعَةُ؛ لأنها تَخْمُصُ [ لها ] البطونُ : أيْ : تَضْمُرُ.
قال أهل اللُّغَةِ : الخَمْصُ والمَخْمَصَةُ : خَلاَءُ البطن من الطعام، وأصْلُهُ مِنَ الخَمْصِ الذي هو ضُمُور البَطْنِ. يقال : رجل خميصٌ وخُمْصَان، وامرأة خَمِيصَةٌ وخُمْصَانة، والجمع خَمَائِصُ وخُمْصَانَاتٌ، وهي صِفَةٌ مَحْمُودَةٌ في النساء.
ويقال : رجل خُمْصَان وامرأة خُمْصَانة، ومنه أخْمَصُ القدمِ لدِقَّتِهَا، ويستعمل في الجوع والغَرْث.
قال :[ الطويل ]

١٩٣٠- تَبِيتُونَ في المَشْتَى مِلاءً بُطُونكُمْ وَجَارَاتُكُمْ غَرْثَى يَبِتْنَ خَمَائِصَا
وقال آخر :[ الوافر ]
١٩٣١- كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا فإنَّ زَمَانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصٌ
وُصِفَ الزمانُ بذلك مبالغةً كقولهم : نَهَارُهُ صَائِمٌ، ولَيْلُهُ قائم. و « غَيْرَ » نُصبَ على الحال.
قال بعضُهم : يَنْتَصِبُ بمحذوفٍ مُقَدَّرٍ على معنى : فيتناول غَيْر مُتجانِفٍ، ويجوز أن يَنْتَصِبَ بقوله :« اضْطُرَّ » ويكونُ المقدرُ متأخراً.
والجمهور على « مُتجَانِفٍ » بألف وتخفيف النون من « تَجَانَفَ ».
وقرأ أبُو عبدِ الرحمن والنَّخَعِيُّ « مُتَجنِّفٍ » بتشديدِ النُّونِ دُونَ ألفٍ.
قال أبو مُحمدِ بن عَطِية : وهي أبْلَغُ من « متجانف » في المعنى؛ لأنَّ شِدّةَ العينِ تدلُ على مُبالغةٍ وتوغُّلٍ في المعنى.
و « لإثم » متعلّق ب « متجانف »، واللام على بابها.
وقيل : هي بمعنى « إلى » أي غَيْرَ مائِلٍ إلى إثْمٍ ولا حاجة إليه.
وقد تقدم معنى هذا واشتقاقها عند قوله :﴿ فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً ﴾ [ البقرة : ١٨٢ ].
قال القُرْطبي : هو معنى قوله :﴿ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ ﴾ [ البقرة : ١٧٣ ]، ومعنى « الإثم » هاهنا أنْ تأكُلَ فوق الشِّبَع تلذُّذاً في قولِ أهل « العراق ».
وفي قولِ أهْلِ « الحجازِ » : أنْ تكُون عَاصِياً.
قال قتادةُ : غَيْرَ مُتَعرِّضٍ لمعْصِية في مقصده.
وقوله :﴿ فَإِنَّ الله غَفُورٌ ﴾ جُمْلةٌ، إمَّا في محلِ جَزْمٍ، أو رفعٍ على حَسَبِ ما قيل في « مَنْ »، وكذلك القول في الفاء إما واجبةٌ أو جائزةٌ، والعائدُ على كِلاَ التقديرين محذوفٌ، أيْ :« فَإِنَّ الله غَفُورٌ » له، [ يعني ] : يَغْفِرُ له أكْلَ المُحَرَّمِ عند الاضطرارِ « رَحِيمٌ » بعباده، حَيْثُ أحَلَّ لهم ذلك المحرمَ عند احتياجهم إلى أكْلِهِ، وهذا مِنْ تَمام ما تقدم ذكره في المطاعِمِ التي حَرَّمَها الله تعالى، يَعْنِي : إنها وإنْ كانت مُحرمةً إلا أنها تحل في حالِ الاضطرارِ، ومن قوله :« فِسْق » إلى هاهنا - اعتراضٌ وقع في النَّسَقِ، والغَرَضُ منه تأكيدُ ما ذُكِر مِنْ مَعْنى التحريم، فإن تحريم هذه الخبائثِ من جملةِ الدِّينِ الكاملِ والنعْمةِ الثابتةِ والإسلامِ الذي هو الدينُ المرضيُّ عند الله تعالى.


الصفحة التالية
Icon