قوله تعالى :[ ﴿ اليوم ] أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات ﴾ الآية.
الكلامُ فيه كالكلام فيما قَبْلَهُ، وزعم قوم أنَّ المراد بالثلاثة أيام المذكورة هنا وقت واحد، وإنَّما كرره توكيداً، ولاختلاف الأحداث الواقعة فيه حَسُنَ تكريره، وليس بشيء.
وادَّعَى بعضهم أنَّ في الكلام تَقْدِيماً وتأخيراً، وأنَّ الأصْلَ ﴿ فاذْكُرُوا اسم الله عليه ﴾ ﴿ وكُلُوا مِمَّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ﴾ وهذا يشبه [ قول ] من يعيد الضمير على الجوارح المرسلة.
قوله تعالى :﴿ وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب ﴾ فيه وجهان :
أصحهما : أنَّهُ مبتدأ، وخبره « حِلٌّ لَّكُمْ » وأبرز الإخبار بذلك في جملة اسمية اعتناءً بالسؤال عنه.
وأجاز أبُو البقاء أنْ يكون مرفوعاً عَطْفاً على مرفوع ما لم يسم فاعله وهو « الطيِّبَات »، وجعل قوله :« حِلّ لَّكُم » خبر مبتدأ محذوف، وهذا ينبغي ألا يجوز البتة لتقدير ما لا يحتاج إليه مع ذهاب بلاغة الكلامِ.
وقوله :﴿ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ﴾ مبتدأ وخبر، وقياس قول أبي البقاءِ أن يكون « طَعَام » عَطْفاً على ما قبله، « وحلّ » خبر مبتدأ محذوف، ولم يذكره، كأنه استشعر الثواب.

فصل


ومعنى ﴿ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات ﴾ يعني الذّبائح على اسم الله عزَّ وجلَّ، وفي المراد ب ﴿ طعام الذين أوتُوا الكتاب ﴾ ثلاثة أقوال :
الأوَّلُ : الذَّبائِحُ، يريد ذبائح اليهود والنّصارى ومن دخل في دينهم من سائر الأمَمِ قبل مبعث محمد ﷺ.
فأمَّا من دَخَلَ في دينهم بعد المبعث فلا تَحِلُّ ذبيحته، فلو ذبح يهوديٌّ أو نصرانيّ على اسم غير الله، كالنَّصراني يذبح على اسم المسيح، فاختلفوا فيه : فقال ابنُ عُمَرَ : لا يحلُّ، وهو قول ربيعةَ. وذهب أكثرُ العلماء إلى أنه يَحِلُّ، وهو قول الشَّعْبِيُّ وعطاء والزهريِّ ومكحولٍ.
وسُئِلَ الشعبيُّ وعطاء عن النصراني يذبح باسم المسيح قالا : يحلُّ، فإن الله تعالى قد أحلَّ ذبائحهم وهو يعلم ما يقولُونَ.
وقال الحسنُ : إذا ذبح اليهوديُّ والنصرانيُّ فذكر اسم غير الله وأنْتَ تسمع فلا تأكله، وإذا غَابَ عنك فَكُلْ، فقد أحَلَّ الله ذلك.
وأما المجوسُ فقد سنَّ فيهم سنةَ أهلِ الكِتابِ في أخذ الجزيَةِ منهم دون أكْلِ ذبائحهم ونكاح نِسَائِهِم.
وعن عليٍّ - رضي الله عنه - أنَّهُ استثنى نصارى بني تغلب، وقالوا : ليسوا على النَّصرانيَّة، ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر، وبه أخَذَ الشافعيُّ - رضي الله عنه - وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّه سُئل عن ذبائح نصارى العَرَبِ، فقال : لا بأسَ به، وبه أخذ أبو حنيفة.
والقول الثاني : أنَّ المرادَ بطعامهم الخبزُ والفاكِهَةُ، وما لا يحتاج فيه إلى الزكاة، وهو منقولٌ عن بعض أئمَّةِ الزَّيديَّةِ.
القول الثالثُ : أنَّ المراد جميع المطعومات.
وحجَّةُ القول الأوَّلِ : أنَّ ما سوى الذبائح حلال قبل أن كانت لأهل الكتاب، فلا يبقى للتَّخصيص بأهل الكتاب فائدةٌ، ولأن ما قبل هذه الآية في بيان الصيْدِ والذّبائح [ فحمل الآية على الذبائح أوْلَى ] وهي التي تصير طعاماً بفعل الذّبائح [ فحملُ الآية عليه أولى ] وقوله :« وَطَعَامُكمْ » فإنْ قيل : كيف شُرِعَ لهم حلُّ طعامنا وهم كفَّارٌ ليسوا من أهل الشَّرْعِ؟
قال الزَّجَّاجُ : معناه حلالٌ لكم أنْ تطعموهم، فيكون خطاب الحلِّ مع المسلمين؛ وقيل : لأنَّه ذكر عقيبه حكم النِّسَاءِ، ولم يذكر حلَّ المسلمات لهم، فكأنه قال : حلالٌ لكم أنْ تطعموهم حرامٌ عليكم أن تزوّجوهم.


الصفحة التالية
Icon