فصل
قوله :﴿ والمحصنات مِنَ المؤمنات ﴾ في رفع « المُحْصَنَات » وجهان :
أحدهما : أنَّهُ مبتدأ خبره محذوف، أي : والمحصنات حِلٌّ لكم أيضاً وهذا هو الظاهر.
واختار أبُو البقاءِ أن يكون معطوفاً على « الطِّيبَاتِ »، فإنَّهُ [ قال :] « مِنَ المُؤمِنَاتِ » حال من الضَّميرِ في « المُحْصَنَات » أو من نفس « المُحْصَنَات » إذا عطفتها على « الطَّيِّبَاتِ » و « حلّ » مصدر بمعنى الحلال؛ فلذلك لم يؤنَّث ولم يُثنَّ، [ ولم يجمع ] لأنه أحسن الاستعمالين في المصادر الواقعة صفة للأعيان، ويقال في الإتباع، حِلٌّ بلٌّ وهو كقولهم : حَسَنٌ بَسَنٌ، وعَطْشَان نَطْشَان.
و « مِنَ المُؤمِنَاتِ » حال كما تقدَّمَ، إما من الضمير في « المُحْصَنَات »، أو من « المُحْصَنَات »، وقد تقدَّم [ الكلام في ] اشتقاق هذه اللفْظَة، واختلاف القراء فيها في سورة النساء.
فصل في معنى المحصنات
هذا منقطع عن قوله :﴿ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ﴾ وراجع إلى الأوَّلِ.
واختلفوا في معنى « المُحْصَنَات »، فذهب أكثر العلماء إلى أنَّ المراد الحَرَائِرُ، وأجازوا [ نكاح ] كل حَرَّة مؤمنة كانت أو كتابية فاجرة كانت أو عفيفة، وهو قول مجاهد. وقال هؤلاء : لا يجُوزُ للمسلم نكاح الأمة الكتابيّة لقوله :﴿ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ ﴾ [ النساء : ٢٥ ] جَوَّز نكاح الأمة بشرط أنْ تكون مؤمنة ولقوله :﴿ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ﴾، ومهر الأمة لا يدفع إليها بل إلى سيِّدها، وجوَّزَ أكثرهُم نِكَاحَ الأمة الكتابيّة الحربيّة لقوله :﴿ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم ﴾ [ النساء : ٢٥ ].
وقال ابن عباس : لا يجوز، وقرأ :﴿ قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله ﴾ [ التوبة : ٢٩ ] إلى قوله :﴿ حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [ التوبة : ٢٩ ] فمن أعطى الجزية حَلّ لنا نساؤهم، ومن لم يعط لم يحلّ لنا نساؤه.
وذهب قومٌ إلى أنّ المراد من « المُحْصَنَات » في الآية العفائفُ من الفريقين حرائر كُنّ، أو إماءً.
وأجازُوا نكاح الأمة الكتابيّة وحرّموا البَغَايا من المُؤمِنَاتِ والكتابيّات وهو قول الحسن، وقال الشعبيُّ : إحصان الكتابية أنْ تستعفَّ عن الزّنا، وتغتسل من الجنابة.
وذهب ابْنُ عُمَرَ إلى أنَّهُ لا يجوز نكاح الذميّة لقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ ﴾ [ البقرة : ٢٢١ ] ويقول : لا أعلم شِرْكاً أعظم من قولها : إنَّ [ ربَّها ] عيسى، وأجاب من قال بهذا القول عن التّمسك بقوله :﴿ والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب ﴾ بوجوه :
أحدُها : أنَّ المراد الذين آمنوا منهم، فإنَّهُ كان يحتمل أن يخطر ببال بعضهم أنَّ الكتابية إذا آمنت هل يجوزُ للمسلم التزويج بها أم لا؟ فبين اللَّهُ تعالى بهذه الآية جواز ذلك.