١٧٢٦- ثَلاَثَةُ أنْفُسٍ وَثَلاَثُ ذَوْدٍ لَقَدْ جَارَ الزَّمَانُ عَلَى عِيَالِي
قوله :﴿ وَخَلَقَ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه عطفٌ على معنى « واحدة » لما فيه من معنى الفعل، كأنه قيل :« من نفس وحدت » أي : انفردت، يُقال :« رجل وَحُد يَحِدُ وَحْداً وَحِدَة » انفرد.
الثاني : انه عَطْفٌ على محذوف.
قال الزَّمَخْشرِيُّ :« كأنه قيل : من نفسٍ واحدةٍ أنشأها أو ابتدأها وخلق منها، وإنما حذف لدلالة المعنى عليه، والمعنى شَعَّبكم من نفس واحدةٍ هذه صفتها » بصفة هي بيان وتفصيل لكيفية خلقكم منها، وَإنَّما حمل الزمخشري رحمه الله تعالى والقائل الذي قبله على ذلك مراعاةُ الترتيب الوجودي؛ لأن خلق حواء -وهي المعبر عنها بالزوج- قبل خلقنا ولا حاجة إلى ذلك، لأن الواو لا تقتضي ترتيباً على الصحيح.
الثالث : أنه عطف على « خَلْقَكُمْ »، فهو داخل في حيز الصلة والواو ولا يُبَالَى بها، إذ لا تقتضي ترتيباً؛ إلا أن الزَّمَخشريَّ رحمه الله تعالى خَصَّ هذا الوجه بكون الخطاب [ للمؤمنين ] في ﴿ ياأيها الناس ﴾ لمعاصري الرسول عليه السلام فإنه قال : والثاني أنه يُعْطَفُ على « خلقكم » ويكون الخطاب للذين بُعِثَ إليهم الرسول، والمعنى : خلقكم من نفس آدم؛ لأنه من جملة الجنس المفرّع [ منه ] وخلق منها أُمَّكم حواء.
فظاهر هذا خصوصيَّةُ الوجه الثاني أن يكون الخطاب للمعاصرين، وفيه نظر، وَقَدَّرَ بعضهم مضافاً في « منها » أي :« مِنْ جِنْسِها زوجَها »، وهو قول أبي مسلم، قال : وهو كقوله :﴿ والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً ﴾ [ النحل : ٧٢ ] وقال ﴿ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ﴾ [ آل عمران : ١٦٤ ] وقوله :﴿ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ ﴾ [ التوبة : ٢٨ ].
قال : وحواء لم تخلق من آدم، وإنما خلقت من طينة فَضَلَتْ من طينة آدم.
قال الْقَاضِي : والأول أقوى لقوله :﴿ خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾.
قال ابن الخَطِيبُ :« يمكن أن يجاب بأن كلمة » مِن « لابتداء الغاية، فَلمَّا كان ابتداء الغاية وهو ابتداء التخليق والإيجاد وقع بآدم صحّ أن يُقَالَ :﴿ خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ وأيضاً فالقادر على خلق آدم من التراب، [ كان قادراً أيضاً على خلق حواء من التراب ]، وَإذا كان كذلك فأيّ فائدة في خلقها من ضلع من أضلاعه ».
وقرئ « وخالِقُ وباثٌّ » بلفظ اسم الفاعل، وخَرَّجَهُ الزمخشريُّ على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي : وهو خالِقٌ وباثٌّ.
وَيُقَالُ : بَثَّ وأبَثَّ ومعناه « فَرَّقَ » ثلاثياً ورباعياً.
قال ابن المظفر :« البثُّ تَفْرِيقَكَ الأشياء ».
يقال : بَثَّ الخيلَ في الغارة، وبَثَّ الصَّيادُ كِلاَبَهُ، وخلق الله الخلق : بَثَّهُمْ في الأرض، وبثثت البسطة إذا نشتريها. قال تعالى :﴿ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ﴾ [ الغاشية : ١٦ ].
فإن قيل : ما المناسبةُ بين الأمر بالتقوى وما ذكر معه من الوصف؟ فالجواب : لما ذكر أنَّه خَلَقَنَا من نفس واحدة، وذلك علة لوجوب الانقياد علينا لتكاليفه؛ لأنا عبيدة وهو مولانا، ويجب على العبد الانقياد لمولاه؛ ولأنه أنعم ومَنَّ بوجوه الإنعام والامتنان، فأوجَدَ وأَحْيَا وعَلَّمَ وهَدَى، فعلى العبد أن يُقَابِلَ تلك النِّعَم بأنواع الخضوع والانقياد؛ ولأنه بكونه موجداً وخالقاً وِرِبَّاً يجبُ علينا عبادته، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ويلزم من ذلك ألا نوجب لتلك الأفعال ثواباً؛ لأن أداء الحق لمستحقه لا يوجب، وثواب هذا إن سَلَّمْنَا أن العبد أتى بتلك الطاعات من عند نفسه، فكيف وهذا محال؛ لأن الطاعات لا تحصل إلاَّ بخلق الله - تعالى - القدرة عليها، والداعية إليها [ ومتى حصلت القدرة والداعي كان ] مجموعهما موجباً لصدور الطاعة، فتكون تلك الطاعة إنعاماً آخر.


الصفحة التالية
Icon