وأيضاً أنَّهُ خلقنا مِنْ نفسٍ واحدةٍ، ذلك أيضاً يوجبُ عَلَيْنَا طَاعَتَهُ لأنَّ ذلك يَدُلُّ على كمالِ القدرة؛ لأن ذلك لو كان بالطبيعة لما تولد عن الإنسان إلاَّ إنسان يشاكله ويشابهه في الْخِلْقَةِ والطبيعةِ، ولَمَّا اختلف الناس في الصفات والألوان، دَلَّ على أن الخالق قَادِرٌ مختارٌ عَالِمٌ، يجب الانقياد لتكاليفه؛ ولأن الله تَعالى عَقَّبَ الأمر بالتقوى بالأمر بالإحسان إلى الْيَتَامَى والنساءِ والضُّعَفَاء وكونهم من نفْس واحدة باعث على ذلك بكونه [ وذلك لأن الأقارب لا بد أن ] يكون بينهم مواصلة وقرابة، وذلك يزيد في المحبة، ولذلك يفرح الإنسان بمدح أقاربه ويحزن بذمهم فقدَّمَ ذكرهم، فقال :﴿ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ ليؤكد شفقة بعضنا على بعض.
فإن قيل : لِمَ لَمْ يقل : وبَثَّ منها الرِّجال والنِّسَاءَ.
فالجواب : لأن ذلك يقتضي كونهما مبثوثين من نفسيهما، وذلك محال، فلهذا عدل إلى قوله :﴿ وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً ﴾.
وقوله :« كثيراً » فيه وجهان :
أظهرهما : أنه نَعْتٌ ل « رِجَالاً ».
قال أبو البقاء : ولم يؤنثه حَمْلاً على المعنى؛ لأن « رجالاً » بمعنى عدد أو جمع أو جنس كما ذَكَّر الفعل المسند إلى جماعةِ لمؤنثِ لقوله تعالى :﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي المدينة ﴾ [ يوسف : ٣٠ ].
والثاني : أنه نعت لمصدر تقديره : وبث منهم بثاً كثيراً؛ وقد تقدم أن مذهب سيبويه في مثله النصبُ على لحالِ.
فإن قيل : لم خَصَّ لرّجالَ بوصفِ الكثرةِ دون النساء؟ ففيه جوابان :
أحدهما : أنه حَذَفَ صِفَتَهُنّ لدلالة ما قبلها عليها تقديره : ونساءً كثيرة.
والثاني : أنَّ الرِّجال لشهرتهم [ وبروزهم ] يُنَاسِبُهم ذلك بخلاف النِّسَاء، فإنَّ الأليقَ بِهِنَّ الخمولُ والإخفاء.
قوله :﴿ تَسَآءَلُونَ ﴾ قرأ الكوفيون « تَسَاءَلُونَ » بتخفيف السين على حذف إحدى التاءين تخفيفاً، والأصل :« تتساءلون » به، وقَدْ تَقَدَّمَ الخلافُ : هَلْ المحذوفُ الأولى أو الثانية وقرأ الباقون بالتشديد على إدغام تاء التفاعل في السين؛ لأن مقاربتها في الهمس، ولهذا تُبْدَلُ من السين، قالوا :« ست » والأصل « سِدْسٌ » وقرأ عبد الله :« تَسْاَلُون » من سأل الثلاثي، وقُرِئَ « تَسَلون » بنقل حركة الهمزة على السين، و « تَسَاءلون » على التفاعل فيه وجهان :
أحدهما : المشاركة في السؤال.