والثاني : أنَّهُ نُهِيَ أن يُحْلَفَ بغيرِ الله تعالى، والأحاديثُ مُصَرَّحةٌ بذلك.
وَقَدَّرَ بَعْضهم مضافاً فراراً من ذلك فقال :« ورَبِّ الأرحام ».
قال أبو البقاء : وهذا قد أغنى عنه ما قبله « يعني : الحلف بالله تعالى.
ويمكن الجواب عن هذا بأن للهَ تعالى أن يُقسمَ بما يشاء من مخلوقاته [ كما أقسم ] بالشمس والنجم والليل، وإن كنا نَحْنُ منهيين عن ذلك، إلا أنَّ المقصود من حيث المعنى، ليس على القسم، فالأولى حمل هذه القراءات على العطف على الضمير، ولا التفات إلى طَعْنِ مَنْ طَعَنَ فيها.
وأجاب آخرون بأن هذا حكاية عن فعل كانوا يفعلونه في الجاهلية؛ لأنهم كانوا يقولون : أسألك بالله وبالرحم، فمجيء هذا الفعل عنهم في الماضي لا ينافي ورود النهي عنه في المستقبل؛ وأيضاً فالنهي ورد عن الحلف بالآباء فقط، وهاهنا ليس كذلك، بل هو حلف باللهِ أولاً، ثُمَّ قرن بِهِ بَعْدَ ذكر لرحم، وهذا لا ينافي مدلول الحديث.
أيضاً فحمزة أحد القراءة السبعة، الظاهر أنه لم يأتِ بهذه القراءة من عند نفسه، بل رواها عن رسول الله ﷺ وذلك يوجب القطع بصحة اللغة، ولا التفات إلى أقيسة النحاة عند وجود السماع، وأيضاً فلهذه القراءة وجهان :
أحدهما : ما تقدم من تقدير تكرير الجر، وإن لم يجزه البصريون فقد أجازه غيرهم.
والثاني : فقد ورد في الشعر وأنشد سيبويه :[ البسيط ]١٧٢٧- فاليَوْمَ قَرَّبْتَ تَهْجُونَا وتَشْتُمْنَا | فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ والأيَّامِ مِنْ عَجَب |
وقال الآخر [ الطويل ]١٧٢٨- تُعَلَّقُ في مِثْلِ السَّوَاري سُيُوفُنَا | وَمَا بَيْنَهَا والْكَعْبِ غَوْطٌ نَفَانِفُ |
وقال آخر [ الوافر ]١٧٢٩- أكُرُّ على الكِتيبَةِ لا أُبالِي | أفِيهَا كَانَ حَتْفِي أمْ سِوَاهَا |
وحمزة بالرتبة السَّنيَّة المانعةِ له من نقلِ قراءة ضعيفة.
قال بن الخطيبِ :» والعَجَبُ من هَؤلاء [ النحاة ] أنهم يستحسنون إثبات هذه اللغة بهذين البيتين المجهولين، ولا يستحسنوها بقراءة حمزة ومجاهد، مع أنهما كانا من أكابر علماء السلف في علم القرآن «.
وقرأ عبد الله أيضاً » والأرحامُ « رفعاً على الابتداء، والخبرُ محذوف فقدَّرَهُ ابن عطية : أهلٌ أنْ توصل، وقَدَّرَهُ الزمخشري :» والأرحام مِمَّا يتقي « أو » مما يتساءل به «.
وهذا أحسنُ للدلالة اللفظية، والمعنوية، بخلاف الأول فإنَّه للدلالة المعنوية فقط، وقَدَّرَهُ أبو البقاء : والأرحام محترمة، أي : واجبٌ حرمتها.
فإن قيل : ما فائدةُ هذا التكرير في قوله أولاً :» اتقوا الله الذي خلقكم «. ثم قال بعده :» واتقوا الله «.
فالجواب فائدته من وجوه :
الأول : فائدته تأكيد الأمر والحث عليه.
والثاني : أن الأمر الأول عامّ في التقوى بناء على الترتيب. والأمر الثاني خاص فيما يلتمس البعض من البعض، ويقع التساؤل به.
الثالث : قوله أولاً :﴿ اتقوا رَبَّكُمُ ﴾ ولفظ » الرَّبِّ « يَدَلُّ على التربية والإحسان، وقوله ثانياً ﴿ واتقوا الله ﴾ ولفظ » الإله « يدل على الغلبة والقهر، فالأمر الأول بالتقوى بناء على الترغيب، والأمر الثاني يدل على الترهيب، فكأنَّهُ قيل : اتقِ الله إنه ربّاك، وأحسن إليك، واتق مخالفته؛ لأنه شديدُ العقاب عظيم السطوة.