﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [ الحجر : ٩ ].
وإذا كان كذلك كان شهادَة القُرْآن على التَّوْرَاة والإنْجيل والزَّبُور حقٌّ وصدقٌ باقيةٌ أبداً، [ وكانت حقيقة هذه الكُتُب مَعْلُومة أبداً ].
ومن قَرَأ بفتح الميمِ الثَّانِية، فالمعنى أنه مشهودٌ عليه من عِنْد الله تعالى بأنَّه يَصُونُه عن التَّحْرِيف والتَّبْدِيلِ لقوله تعالى :﴿ لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ ﴾ [ فصلت : ٤٢ ]، والآيات المتقدِّمة.
قوله تعالى ﴿ فاحكم بَيْنَهُم ﴾ : يا محمد ﴿ بِمَآ أَنزَلَ الله ﴾ بين أهْلِ الكتاب إذا ترافعُوا إليك بالقُرآن، والوَحْي ينزل عليك، ﴿ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ ﴾، أي : ولا تتحَرِفْ، ولذلك عدَّاه ب « عَنْ » كأنَّه قيل : ولا تنحرف عمَّا جاءك من الحقِّ مُتَّبِعاً أهواءَهم.
روي أنَّ جماعة من اليهُود قالوا : تعالوا [ نذهب ] إلى محمد لعلَّنا نَفْتِنهُ عن دينه، ثمَّ دَخَلُوا عليه وقالوا : يا مُحَمَّد قد عَرَفْتَ أنّا أحبار اليَهُود وأشْرَافُهم، وأنّا إن اتَّبَعْنَاك اتَّبَعَك كلُّ اليَهُود، وإنَّ بَيْنَنَا وبين خصُومِنا حُكُومة فَنُحَاكِمهم إلَيْكَ، فاقْضِ لنا ونحْنُ نُؤمِنُ بك فأنزل الله تعالى هذه الآية - والله أعلم -.

فصل


تمسَّك من طعن في عِصْمَة الأنْبِيَاء عليهم الصلاة والسلام بهذه الآيةِ، وقال : لولا جواز المَعْصِيَة عليهم لما قال الله تعالى :﴿ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الحق ﴾.
والجوابُ : أنَّ ذلِكَ مَقْدورٌ له، ولكِنَّهُ لا يَفْعَله لمكان النَّهْي، وقيل : الخِطَابُ له والمُرَاد غيره.
قوله تعالى :« عَمَّا جاءَك » فيه وجهانِ :
أحدهما - وبه قال أبو البقاء - أنَّهُ حال، أي : عَادِلاً عمَّا جَاءَك، وهذا فيه نَظرٌ من حيث إنَّ « عَنْ » حرف جرٍّ ناقِص لا يقع خَبَراً عن الجُثَّةِ، فكذا لا يَقَعُ حالاً عنها، وحرف الجر النَّاقِص إنَّما يتعلَّق بكَوْنٍ مُطْلق لا بكَون مُقَيَّد، لكن المقيَّد لا يجوز حَذْفُهُ.
الثاني : أن « عَنْ » على بابِها من المُجَاوَزَةِ، لكن بتضمين [ « تَتَّبعْ » ] معنى « تَتَزَحْزَحْ وتَنْحَرِفْ »، أي : لا تَنْحَرِفْ مُتَّبِعاً كما تقدم.
قوله تعالى :« مِن الحقِّ » فيه أيْضاً وجهان :
أحدهما : أنَّه حالٌ من الضَّمِير المرفُوع في « جاءَك ».
والثاني : أنَّهُ حالٌ من نفس « مَا » الموصُولة، فيتعلّق بمحذوفٍ، ويجُوزُ أن تكون للبيان.
قوله [ تعالى ] :« لِكُلّ » :« كُلّ » مضافة لشيء محذوفٍ، وذلك المَحذُوف يُحتمل أن يكون لَفْظَة « أُمّة »، أي : لكل أمة، ويراد بِهِم : جميعُ النَّاسِ من المُسْلِمِين واليَهُود والنَّصارى.
ويحتمل أن يكُون ذلك المَحْذُوف « الأنْبِيَاء » أي : لكلِّ الأنْبِياءِ المقدَّم ذِكْرُهم.
و « جَعَلْنَا » يُحْتَمل أن تكون مُتعدِّية لاثْنَين بمعنى صَيَّرْنَا، فيكون « لكلِّ » مفعولاً مقدَّماً، و « شِرْعَةً » مفعول ثانٍ.
وقوله :« مِنْكم » متعلِّق بمحذُوفٍ، أي : أعْني مِنْكم، ولا يجُوز أن يتعلَّق بمَحْذُوف على أنَّهُ صِفَة ل « كُلٍّ » لوجهين :
أحدهما : أنَّهُ يلزم منه الفَصْلُ بين الصِّفَة والموصُوف بقوله :« جعلنا »، وهي جُمْلة أجْنَبيَّة ليس فيها تَأكِيد ولا تَسْدِيدٌ، وما شأنه كذلِكَ لا يجُوزُ الفَصْلُ به.


الصفحة التالية
Icon