والثاني : أنه يَلْزَمُ منه الفَصْلُ بين « جَعَلْنَا »، وبين مَعْمُولها وهو « شرعة » قاله أبو البقاء، وفيه نظر، فإنَّ العامِلَ في « لِكُلٍّ » غير أجْنَبِيّ، ويدلُّ [ على ذلك ] قوله :﴿ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ ﴾ [ الأنعام : ١٤ ]، ففصل بين الجلالة وصِفَتِها بالعامِل في المَفْعُول الأوّل، وهذا نَظِيرُهُ.
وقرأ إبراهيم النَّخعي، ويَحْيى بن وثَّاب :« شَرْعَةً » بفتح الشِّين، كأن المكسور للهيئَة، والمفْتُوح مَصْدر.
والشِّرْعَةُ في الأصْل « السُّنَّة »، ومنه :﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين ﴾ [ الشورى : ١٣ ]، أي : سن [ لكم وبيَّنَ ووَضَّحَ ].
والشَّارع : الطريق، وهو من الشَّريعة التي هي في الأصْلِ : الطَّريق المُوصِّلُ إلى الماء، وقال ابن السِّكِّيت : الشَّرْع مصدر شَرَعْت الإهَاب، أي : شَقَقْتُهُ وسَلَخْتُه، وقيل : مأخوذٌ من الشُّروع في الشَّيء : وهو الدُّخُول فيه.
ومنه قول الشاعر :[ البسيط ]
١٩٧٣- وفِي الشَّرَائِعِ مِنْ جلاَّنَ مُقْتنِصٌ | بَالِي الثِّيَابِ خَفِيُّ الصَّوْتِ مُنْزَرِبُ |
ومنه قوله :[ الرجز ]
١٩٧٤- مِنْ يَكُ ذَا شَكٍّ فَهَذَا فَلْجُ | مَاءٌ رَوَاءٌ وطريقٌ نَهْجُ |
١٩٧٥-.......................... | وَهِنْدٌ أتَى مِنْ دُونِهَا النَّأيُ والبُعْدُ |
١٩٧٦-.......................... | وَألْفَى قَوْلَهَا كَذِباً وَمَيْنا |
فالشِّرْعَةُ : ابتداءُ الطَّريق، والمِنْهَاج الطَّريق المستمِرُّ، قاله المبرِّد، أو الشِّرْعةُ : الطَّرِيق وَاضِحاً كان أو غَيْر وَاضِح، والمنْهَاجُ : الطريق الوَاضِحُ فقط، فالأوَّل أعمُّ. قاله ابن الأنباري، أو الدِّين والدَّلِيل؟ خلافٌ مشهور.
فصل في معنى الآية
قال ابنُ عبَّاس، ومُجَاهِد، والحسن - رضي الله عنهم - معنى قوله :﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ﴾ أي : سَبِيلاً وسُنَّة، وأراد بهذا أن الشَّرَائع مختلِفَةٌ ولكلِّ أمَّة شرِيعة.
قال قتادة : الخِطَاب للأمُمِ الثَّلاث : أمَّة مُوسَى، وأمَّة عيسى، وأمَّة محمد - صلوات الله وسلامُهُ عليهم - لتقدُّم ذِكرهم.
فإن قيل : قد وردتْ آياتٌ تدلُّ على عدم التَّبَايُن في طريقة الأنبياء - عليهم السلام - كقوله تعالى :﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً ﴾ [ الشورى : ١٣ ] إلى قوله تعالى :﴿ أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ ﴾ [ الشورى : ١٣ ] وقال تعالى ﴿ أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده ﴾ [ الأنعام : ٩٠ ]، وآياتٌ دلَّت على التَّبَايُن في هذه الآية فكيف الجَمْع؟
فالجواب : أنَّ الأوَّل يَنْصَرِفُ إلى أصُول الدِّيَانَاتِ.
والثاني ينصرف إلى الفُرُوع.
واحتجَّ أكثر العُلَمَاء بهذه الآية على أنَّ شرع من قبلنا لا يلزمنا؛ لأنَّها تدلُّ على أنَّ لكلِّ رَسُولٍ شريعَةٌ خاصَّةٌ.