قوله تعالى :« أن يفْتِنُوكَ » فيه وجهان :
أظهرهما : أنَّهُ مفعول من أجلِهِ، أي : احْذَرْهُمْ مخافةَ أن يَفْتِنُوك.
والثاني : أنَّها بدل من المفعُول على جهة الاشْتِمَال، كأنَّه [ قال ] : واحذرهُم فِتْنَتَهُمْ، كقولك :« أعجَبني زَيْدٌ عِلْمُه ».
وقوله تعالى :« فإن تَوَلَّوْا ».
قال ابنُ عطيَّة : قبله محذُوفٌ يَدُلُّ عليه الظَّاهِر، تقديره :« لا تَتَّبعْ واحْذَر، فإن حكَّمُوك مع ذَلِك، واسْتقامُوا لك فَنِعمَّا ذلك وإن تولَّوا فاعْلَمْ ».
ويحسُنُ أن يقدَّر هذا المحذُوف المعادل بعد قوله :« لَفَاسِقُون »، والذي يَنْبَغِي ألاَّ يُقَال : في هذا النَّوْع ثَمَّ حذف؛ لأنَّ ذلك من بَابِ فَحْوَى الخِطَابِ، والأمْر فيه واضِحٌ.
فصل
المعنى :« فإن تَولَّوْا » : أعرضوا عن الإيمَان ولَمْ يَقْبَلُوا حُكْمَكَ، ﴿ فاعلم أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم ﴾ أي : فاعْلَم أن إعْراضهم من أجْلِ أن يُرِيد الله أن يعجِّل لهم العُقُوبَة في الدُّنْيَا، بأن يُسَلِّط عَلَيْهِم ويُعذِّبَهُم في الدُّنْيَا [ بالقَتْلِ والجَلاَء ]، وخصَّ تعالى بَعْضَ الذُّنُوب؛ لأنَّ القَتْل جُوزُوا به في الدُّنْيَا بِبَعْضِ ذُنُوبهم، وكانت مُجَازَاتهم بالبعض كَافِياً في إهلاكهم، ﴿ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس ﴾، يعني : اليَهُود. « لفاسقون » لمتمردّون في الكُفْرِ ومُعْتَدُون فيه.
قوله تعالى :« أفَحُكْمَ » : الجمهور على ضمِّ الحاء، وسُكُون الكَافِ ونَصْبِ الميم، وهي قِرَاءَة واضِحَةٌ.
و « حُكْمَ » مَفْعُول مقدَّم، و « يَبْغُون » فعل وفاعل، وهو المْستفْهَم عَنْه في المَعْنَى.
و « الفاء » فيها القَوْلان المشهوران : هل هي مُؤخَّرة عن الهَمْزة وأصلُهَا التَّقدِيم، أو قَبْلَها جملة عَطَفَتْ ما بعدها عليها تقديره : أيعدِلُون عن حُكْمِكَ فَيَبْغُونَ حُكْمَ الجاهليَّة؟
وقرأ ابن وثَّاب، والأعْرج، وأبو رجَاء، وأبو عبد الرَّحمن برفع الميمِ، وفيها وجهان :
أظهرهما - وهو المَشْهُور عند المُعربين - : أنه مُبْتَدأ، و « يَبْغُون » خبره، وعائِدُ المبتدأ محذُوفٌ تقديرُه :« يَبْغُونَهُ » حَمْلاً للخبر على الصِّلَة، إلا أنَّ بعضهُم جَعَلَ هذه القِرَاءة خَطَأ، حتى قال أبُو بكر بن مُجَاهِد :« هذه القراءةُ خَطَأ »، وغيره يَجْعَلُهَا ضَعِيفَة، ولا تَبْلُغ دَرَجَةَ الخَطَأ.
قال ابن جنِّي في قول ابن مُجاهد : لَيْس كذلك، ولكنَّه وَجْهٌ غَيْرُه أقْوى منه، وقد جَاءَ في الشِّعْر، قال أبو النَّجْم :[ الرجز ]
١٩٧٧- قَدْ أصْبَحَتْ أمُّ الخِيَارِ تَدَّعِي | عَلَيَّ ذَنْباً كُلُّهُ لَمْ أصْنَعِ |
قال ابن عطيَّة : وهكذا الرِّواية، وبها يَتِمُّ المَعْنى الصَّحِيح؛ لأنَّه أراد التبَرُّؤ من جَمِيع الذُّنُوبِ، ولو نَصب « كُل » لكان ظَاهِر قوله أنَّه صنع بَعْضَه، وهذا الذي ذكره ابن عطيَّة معنى صَحيح نصَّ عليه أهل علم المعاني والبيان، واستَشْهَدُوا على ذلك بقوله - عليه السلام - « حين سأله ذُو اليَديْن، فقال :» أقصرت الصَّلاةُ أمْ نَسِيتَ؟ فقال :« كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ »