ثم رأينا أن المعجز حصل على يدي محمد - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فوجب الإقرار بكونه رسولاً، فأمَّا الإقرار بالبعض وإنكار البعض فذلك تناقض ومذهب باطل.
قوله تعالى :﴿ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ﴾ قرأ الجمهور :« أنَّ » مفتوحة الهمزة.
وقرأ نعيم بن ميسرة بكسرها.
فأمَّا قراءة الجمهور فتحتمل « أنَّ » فيها أن تكون في محل رفع، أو نصب، أو جر، فالرفع من وجه واحد، وهو أن تكون مبتدأ، والخبر محذوف.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ :« والخبر محذوف، أي : فسقكم ثابت معلوم عندكم؛ لأنكم علمتم أنَّا على الحق، وأنْتُمْ على الباطل، إلا أن حب الرئاسة، وجمع الأموال لا يدعكم فتنصفوا ».
فقدر الخبر متأخراً.
قال أبُو حيَّان : ولا ينبغي أن يُقَّدَرَ الخبر إلا مقدماً؛ لأنه لا يبتدأ ب « أن » على الأصح إلا بعد « أمَّا » انتهى.
ويمكن أن يقال : يُغْتَفَرُ في الأمور التقديرية ما لا يغتفر في اللفظية، لا سيما أنَّ هذا جارٍ مجرى تفسير المعنى، والمراد إظهار ذلك الخبر [ كيف ] يُنْطَقُ به؛ إذْ يقال : إنه يرى جواز الابتداء ب « أنَّ » مطلقاً، فحصل في تقدير الخبر وجهان بالنسبة إلى التقديم والتأخير.
وأمَّا النَّصْبُ فمن ستَّةِ أوجه :
أحدها : أن يُعْطَفَ على « أن آمنَّا » واستشكل هذا التخريج من حيث إنه يصير التقدير : هل تكرهون إلا إيماننا، وفسق أكثركم، وهم لا يعترفون بأن أكثرهم فاسقون حتى يكرهونه.
وأجاب الزمخشري وغيره عن ذلك بأن المعنى :« وما تنقمون منا إلا الجمع بين إيماننا، وبين تمرُّدكم، وخروجكم عن الإيمان، كَأنَّه قِيلَ : وما تنكرون منا إلا مخالفتكم حَيْثُ دخلنا في دين الإسلام وأنتم خارجون منه ».
ونقل الواحدي عن بعضهم أن ذلك من باب المُقَابَلَة والازدواج، يعني أنه لما نقم اليهود عليهم الإيمان بجميع الرسل، وهو مما لا يُنْقَمُ ذَكَرَ في مُقَابلته فسقَهُمْ، وهو مما يُنْقَم، ومثل ذلك حَسًنٌ في الازدواج، يقول القائل :« هل تنقم مني إلا أن عفوت عنك، وأنَّكَ فاجر » فيحسن ذلك لإتمام المعنى بالمقابلة.
وقال أبُو البقاء : والمعنى على هذا : إنكم كرهتم إيماننا وامتناعكم، أي كرهتم مخالفتنا إياكم وهذا كقولك للرجل :« ما كرهت مني إلا أني مُحَبَّبٌ للناس، وأنك مبغض »، وإن كان لا يعترف بأنه مبغض.
وقال ابن عطية :﴿ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ﴾ هو عند أكثر المتأوِّلين معطوف على قوله :« أنْ آمنَّا »، فيدخل كونهم فاسقين فيما نَقَمُوهُ وهذا لا يتجه معناه.
ثم قال بعد كلام :« وإنَّمَا يَتَّجِهُ على أن يكون معنى المحاورة : هل تنقمون منا إلا مجموع هذه الحال من أنا مؤمنون وأنتم فاسقون، ويكون ﴿ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ﴾ مما قرره المخاطب لهم، وهذا [ كما ] يقول لمن يخاصم :» هل تنقم عليَّ إلا أن صدقت أنا، وكذبت أنت «، وهو لا يُقِرُّ بأنه كاذب، ولا ينقم ذلك، لكن معنى كلامك : هل تنقم إلا مجموع هذه الحال » وهذا هو مجموع ما أجاب به الزَّمَخْشَرِيُّ والواحِديُّ.