قال شهاب الدين : قد سألوا العلماءَ عن ذلك ووجدوه صحيحاً في المعنى بحمد الله تعالى، وإذا تواتر الشيءُ قرآناً، فلا التفاتَ إلى مُنْكِره؛ لأنه خَفِيَ عليه ما وَضَح لغيره.
وقَدْ ذَكَرُوا في تَوْجِيه هذه القِرَاءة وُجُوهاً : مِنْهَا ما تقدَّمَ [ من أنَّهم ] ضَمُّوا البَاءَ للمبالَغَة، كقولِهِم :« حَذُر » و « فَطُن » ومنها ما نقله البَغَوِي وغيره : أنَّ « العبْد » و [ « العبُد » ] لغتان كقولهم سَبْع، وسَبُع.
ومنها : أن العَبْد جمعه عِبَاد، والعِبَادُ جَمْعُ عُبُد، كثِمَار وَثُمُر، فاستثقلوا ضَمَّتَيْن مُتَواليتيْن فأبْدِلت الأولى فَتْحَة.
ومنها : يحتمل أنهم أرادوا أعْبُد الطَّاغُوت، مثل فَلْسٍ وأفْلُسٍ ثم [ حُذِفَتِ « الهَمْزَةُ » ونقلت حَرَكَتُها إلى « العَيْن ».
ومنها : أنه أراد : وعبدةَ الطَّاغُوت، ثم ] حذفت الهاء وضم الباء لِئَلاَّ يُشْبِه الفِعْلَ. وأمَّا القراءاتُ الشاذَّةُ فقرأ أبَيٌّ :« وعَبَدُوا » بواو الجمع؛ مراعاةً لمعنى « مَنْ »، وهي واضحةٌ، وقرأ الحسنُ البصريُّ في رواية عبَّادٍ :« وعَبْدَ الطَّاغُوتَ » بفتح العين والدال، وسكون الباء، ونصب التاء من « الطَّاغُوتَ »، وخرَّجها ابن عطية على وجهيْنِ أحدهما : أنه أراد :« وعَبْداً الطَّاغُوتَ »، فحذف التنوينَ من « عَبْداً » ؛ لالتقاء الساكنين؛ كقوله :[ المتقارب ]
١٩٩١-...................... | وَلاَ ذَاكِرِ اللَّهَ إلاَّ قَلِيلا |
والثاني : أنه أراد
« وعَبَدَ » بفتح الباء على أنه فِعْلٌ ماضٍ؛ كقراءة الجماعة، إلا أنه سكَّن العينَ على نحوِ ما سكَّنها في قول الآخر :[ الطويل ]
١٩٩٢- وَمَا كُلُّ مَغْبُونٍ وَلَوْ سَلْفَ صَفْقُهُ | .......................... |
بسكون اللام، ومثله قراءةُ أبي السَّمَّال :
﴿ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ ﴾ [ المائدة : ٦٤ ] بسكون العين، قال شهاب الدين : ليس ذلك مثل
« لُعْنُوا » ؛ لأنَّ تخفيف الكسْرِ مقيسٌ؛ بخلاف الفتح؛ ومثلُ
« سَلْفَ » قولُ الآخر :[ الرمل ]
١٩٩٣- إنَّمَا شِعْرِيَ مِلْحٌ | قَدْ خُلِطْ بجُلْجُلاَنِ |
من حيث إنه خَفَّف الفَتْحة. وقال أبو حيان - بعد أن حكى التخريج الأوَّل عن ابن عطية - : لا يَصِحُّ؛ لأنَّ عَبْداً لايمكنُ أن ينصبَ الطاغوتَ؛ إذ ليس بمصدرٍ ولا اسمِ فاعلٍ، فالتخريجُ الصحيحُ أن يكون تخفيفاً من
« عَبَدَ » ك
« سَلْفَ » في
« سَلَفَ »، قال شهاب الدين : لو ذكر التخريجَيْن عن ابن عطيَّة، ثم استشكل الأولَ، لكان إنصافاً؛ لئلا يُتَوَهَّم أن التخريج الثاني له، ويمكن أن يقال : إنَّ
« عَبْداً » لِما في لفظه من معنى التذلل والخضوعِ دَلَّ على ناصبٍ للطاغوت حُذِفَ، فكأنه قيل : مَنْ يعبدُ هذا العَبْدَ؟ فقيل : يَعْبُدُ الطاغوتَ، وإذا تقرَّر أنَّ
« عَبْدَ » حُذِفَ تنوينُه فهو منصوبٌ عطْفاً على القِردَةِ، أي : وجعلَ منْهُمْ عَبْداً للطَّاغوتِ.