وقوله :« إذْ ليسَ فيها ضميرٌ » قد تقدَّم أن العائِدَ يُقَدَّر، أي : ينفق بهما.
الرابع : أنها حالٌ من « يدَاهُ » وفيه خلافٌ - أعني مجيءَ الحالِ من المبتدأ - ووجه المنع : أنَّ العامل في الحالِ هو العالمُ في صاحبهَا، والعاملُ في صاحبها أمرٌ مَعْنَوِيٌّ لا لفظيٌّ، وهو الابتداء، وهذا على أحد الأقوال في العاملِ في الابتداء.
الخامس : أنها حالٌ من الهاء في « يَدَاهُ »، ولا اعتبارَ بما منعه أبو البقاءِ؛ لما تقدَّم من تَصْحيح ذلك.
و « كَيْفَ » في مثل هذا التركيب شرطيةٌ؛ نحو :« كيْفَ تكُونُ أكُونُ » ومفعولُ المشيئة محذوفٌ، وكذلك جوابُ هذا الشرط أيضاً محذوفٌ مدلولٌ عليه بالفعل السابق ل « كَيْفَ »، والمعنى : يُنْفِقُ كما يشاءُ أنْ يُنْفِقَ يُنْفِقُ، ويبسطُ في السَّماء، كَيْفَ يشاء أنْ يَبْسُطَهُ يَبْسُطُهُ، فحذف مفعول « يَشَاءُ » وهو « أنْ » وما بعدها، وقد تقدَّم أن مفعول « يشَاء » و « يُريد » لا يُذْكران إلا لغرابتهما، وحذفَ أيضاً جواب « كَيْفَ » وهو « يُنْفِقُ » المتأخرُ ولا جائزٌ أن يكون « يُنْفِق » المتقدمُ عاملاً في « كَيْفَ »، لأنَّ لها صدر الكلامِ، وما له صدرُ الكلام لا يعمل فيه إلا حرفُ الجر أو المضاف.
وقال الحوفيُّ :« كَيْفَ » سؤالٌ عن حال، وهي نصبٌ ب « يَشَاء »، قال أبو حيان :« ولا يُعْقَلُ هنا كونُها سُؤالاً عن حال »، وقد تقدم الكلامُ عليها مشبعاً عِنْدَ قوله :﴿ يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ ﴾ [ آل عمران : ٦ ].
فصل
ومعنى ﴿ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ ﴾ أي : يَرْزُق كيف يُريد وكيف يشاءُ، إن شاء قَتَّر، وإن شاء وَسَّعَ. وقال تعالى :﴿ وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض ولكن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ ﴾ [ الشورى : ٢٧ ].
وقال تعالى :﴿ يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ ﴾ [ الرعد : ٢٦ ].
وقال عزَّ وجلَّ :﴿ قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير ﴾ [ آل عمران : ٢٦ ]، وهذه الآية ردّ على المعتزلة؛ لأنَّهُم قالوا : يَجِبُ على اللَّه إعْطَاء الثَّوَاب للمُطِيع، ويجبُ عليه ألاَّ يُعاقِبَهُ، فَهَذَا المَنْعُ والقَيْدُ يَجْري مُجْرَى الغلّ، فهم في الحقيقة [ قائلون بأنَّ يَدَ الله مَغْلُولة ].
وأمَّا أهْلُ السُّنَّةِ - رضي الله عنهم - [ فهُمُ ] القَائِلُونَ : بأنَّ المُلْكَ مُلْكُهُ، وليس لأحدٍ عليه اسْتِحْقَاقٌ ولا اعتِرَاضٌ، كما قال تعالى :﴿ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً ﴾ [ المائدة : ١٧ ] فقوله تعالى :﴿ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ ﴾ لا يسْتَقِيم إلا على هذا المَذْهَبِ.
قوله تعالى :﴿ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً ﴾ والمراد بالكثير : علماء اليهود، يعني : ازدَادُوا عند نُزُولِ ما أنْزِل إليك من رَبِّكَ من القرآنِ والحُجَجِ غُلُواً في الكُفْرِ والإنكَار، كما يُقال :« ما زادَتْكَ الموْعِظَةُ إلا شَرّاً »، وهم كُلَّما نزلت آيةٌ كَفَرُوا بها فازْدَادُوا طُغْيَاناً وكُفْراً.