وقيل : إقامَتُهُمْ [ على الكُفْر ] زِيَادَةٌ مِنْهُمْ في الكُفْر.
قوله تعالى :« ما أنْزِلَ » « مَا » هنا موصولةٌ اسميَّة في محلِّ رفع؛ لأنها فاعل بقوله :« ليزِيدَنَّ »، ولا يجوزُ أن تكون « مَا » مصدريةً، و « إلَيْكَ » قائمٌ مقام الفاعل ل « أُنْزِلَ »، ويكون التقديرُ :« وليَزِيدَنَّ كَثِيراً الإنْزَالُ إلَيْكَ » ؛ لأنه لم يُعْلَمْ نفسُ المُنَزَّلِ، والذي يزيدُهُمْ إنما هو المُنَزَّلُ، لا نفسُ الإنزال، وقوله :« مِنْهُمْ » صفةٌ ل « كَثِيراً » فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، و « طًغْيَاناً » مفعولٌ ثان ل « يَزيد ».
فصل
دلّ هذا الكلامُ على أنَّه تعالى لا يُرَاعى مصالح الدِّين والدُّنيا؛ لأنَّه تعالى عَلِمَ أنَّهم يَزْدَادُون عند إنْزالِ تِلْك الآيَاتِ، [ كفراً وضلالاً، فلو كانَتْ أفعَالُه مُعَلَّلَة برعاية المصالِحِ للعباد، لامْتَنَع عليه إنْزَال تلك الآيات ] فلما أنْزَلَهَا عَلِمْنَا أنَّهُ تعالى ما يُرَاعي مصالح العِبَادِ، ونظيرُه قوله تعالى :﴿ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ ﴾ [ التوبة : ١٢٥ ]، فإن قالوا : عَلِمَ اللَّه تعالى من حَالِهِم سواءً أنْزَلَهَا أو لم يُنْزِلْها، فإنَّهُم يأتون بتلكِ الزِّيَادة من الكُفْرِ، فلهذَا حَسُن منه تعالى إنْزَالُها.
قلنا : فَعلى هذا التَّقْدير لم يكن ذلك الازْديَادُ لأجل تِلكَ الآيات، وهذا يقتضي أن تكون إضافة ازدِيَاد الكفر إلى إنْزال تِلْكَ الآياتِ بَاطِلاً، وذلِكَ تكذيبٌ لنَصِّ القُرْآن.
قوله تعالى :﴿ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء ﴾ الضمير في « بَيْنَهُم » يجوز أن يعود على اليَهُود والنَّصَارى؛ لتقديم ذكرهم، ولاندراج الصِنْفَيْن في قوله تعالى :﴿ يَا أَهْلَ الكتاب ﴾ [ المائدة : ١٩ ]، ويجُوزُ أن يعُودَ على اليَهُود وحْدَهُم، لأنَّهُم فِرَقٌ مُخْتَلِفَةٌ، فعلى هذين قال الحسن ومجاهد : يعني بين اليَهُود والنَّصارى، لأنَّ ذكرهم جرى في قوله :﴿ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى ﴾ [ المائدة : ٥١ ]، وقيل : بين فِرَق اليهُود، فإنَّ بعضهم جَبْرِيَّةٌ، وبعضَهم قَدَرِيَّةٌ، وبعضهم [ مُوَحِّدَة ] وبعضهم مُشَبِّهَة، وكذلك بين فرقِ النَّصَارى كالمَلْكَانِيَّة والنَّسْطُوريَّةِ واليَعْقُوبِيَّةِ.
فإن قيل : فهذا المعنى حَاصِلٌ بين فرقِ المُسْلمين، فكيف يمكن جعلهُ عَيْباً في اليَهُودِ والنَّصَارى؟
فالجواب : أنَّ هذه البدَعَ إنَّما حدثَتْ بعدَ عصر الصَّحَابةِ والتَّابعين، أما في ذلك الزَّمَانِ فلم يكن شَيءٌ من ذَلِك، فلا جَرَمَ حَسُنَ جَعْل ذلك عَيْباً في اليَهُود والنَّصَارى.
ووجْهُ اتِّصَال هذا الكلام بما قَبْلَهُ : أنَّه تعالى بيَّن أنَّهُم إنَّما يُنْكِرُون نُبُوَّتَه بعد ظُهُور الدَّلائِلِ على صِحَّتِها لأجل الحَسَدِ، ولأجل حُبِّ الجَاه والمال والسَّعادة، فلمَّا رجَّحُوا الدُّنْيَا على الآخِرَة لا جَرَم حَرَمهم سعادَة الدِّين، فلذلك حَرمَهم سَعَادةَ الدُّنْيَا؛ لأنَّ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْهُم مُصِرٌّ على مذهبه، ومُبَالِغٌ في نصرته، ويَطْعَنُ في كل ما سِوَاه من المذاهِب تَعْظِيماً لِنَفْسِه وتَرْويجاً لمذهَبِهِ، فصار ذلك سَبَباً لوقوع الخُصُومَة الشَّدِيدَة بين فرقِهم، انْتَهى الأمر فيه إلى أنَّ بَعْضَهُم يُكَفِّر بَعْضاً.