[ محمد : ٢٠ ] فكرهَهُ بَعْضُ المُؤمِنين.
قال تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كفوا أَيْدِيَكُمْ ﴾ [ النساء : ٧٧ ] الآية، وكان النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - يمسك في بعض الأحَايِين عن الحثِّ عن الجهاد لِمَا يَعْلمُ من كَرَاهَةِ بعضهم فأنزَلُ اللَّهُ تعالى هذه الآية، والمَعْنَى : بَلِّغْ واصْبِر على تَبْلِيغ ما أنْزَلَهُ إلَيْك من كَشْفِ أسْرَارهم وفَضَائحِ أفعالهم، فإنَّ الله تعالى يَعْصِمُك من كَيْدِهِم ومَكْرِهِم، وقيل : نزلتَ في حجَّة الوَدَاع، لمَّا بيَّن الشَّرائِع والمَنَاسِكَ قال : هل بلَّغْتُ؟ قالُوا : نَعَمْ قال : اللَّهُم فاشْهَدْ، وقِيلَ : لمَّا نزلَتْ آيَة التَّخْيِير وهِيَ قوْلُه تعالى :﴿ ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا ﴾ [ الأحزاب : ٢٨ ] فلم يَعْرِضْهَا عليهنَّ خَوْفاً من اختيارِهِنَّ للدُّنْيَا فنزلت.
قوله تعالى :﴿ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ﴾، أي : وإنْ لم تفعل التبليغ، فحذف المفعول به، ولم يقل :« وإن لم تبلّغْ فما بلّغتَ » لما تقدَّم في قوله تعالى :﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ ﴾ في البقرة [ آية : ٢٤ ]، والجوابُ لا بُدَّ أن يكون مغايراً للشرط؛ لتحصُل الفائدةُ، ومتى اتَّحدَا، اختلَّ الكلامُ، لو قلتَ :« إنْ أتَى زيدٌ، فقدْ جَاءَ »، لم يَجُزْ، وظاهرُ قوله :« وإنْ لَمْ تَفْعَلْ، فما بَلَّغْتَ » اتحادُ الشرطِ والجزاء، فإن المعنى يَئُولُ ظاهراً إلى قوله : وإن لم تفعل، لم تفعل، وأجاب الناسُ عن ذلك بأجوبةٍ؛ أسَدُّها : ما قاله الزمخشريُّ، وقد أجاب بجوابَيْنِ :
أحدهما : أنه إذا لم يمتثلْ أمر اللَّهِ في تبليغِ الرِّسالاتِ وكتَمَها كُلَّها؛ كأنه لم يُبْعَثْ رَسُولاً - كان أمراً شنيعاً لا خَفَاء بشناعته، فقيل : إنْ لم تُبَلِّغْ أدنَى شيء، وإن كلمةً واحدةً، فكنْتَ كمَنْ رَكِبَ الأمر الشنيعَ الذي هو كتمانُ كُلِّهَا، كما عَظَّمَ قَتْلَ النفْسِ في قوله :﴿ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً ﴾ [ المائدة : ٣٢ ].
والثاني : المراد : وإنْ لَمْ تَفْعَلْ ذلك، فلك ما يُوجِبُ كتْمَانَ الوَحْي كلِّه من العقابِ، فوضَع السَّبَبَ مَوْضِعَ المُسَبِّبِ؛ ويؤيده :« فأوْحَى الله إليَّ : إنْ لَمْ تُبَلِّغْ رسَالاَتِي، عَذَّبْتُكَ ».
وأجاب ابن عطية : أي : وإنْ تركْتَ شيئاً، فقد تركْتَ الكلَّ، وصار ما بَلَّغْتَ غيرَ معتدٍّ به، فمعنى « وإنْ لَمْ تَفْعَلْ » :« وإنْ لَمْ تَسْتَوْفِ » ؛ ونحوُ هذا قولُ الشاعر :[ الطويل ]

٢٠٠٧- سُئِلْتَ فَلَمْ تَبْخَلْ، وَلَمْ تُعْطِ نَائِلاً فَسِيَّان لا حَمْدٌ عَلَيْكَ وَلاَ ذَمُّ
أي : فلم تُعْطِ ما يُعَدُّ نَائِلاً، وإلاَّ يتكاذَبِ البيتُ، يعني بالتكاذُب أنه قد قال :« فَلَم تَبْخَلْ » فيتضمَّن أنه أعطى شيئاً، فقوله بعد ذلك :« ولَمْ تُعْطِ نَائِلاً » لو لم يقدِّر نَائِلاً يُعْتَدُّ به، تكاذَبَ، وفيه نظرٌ؛ فإن قوله « لَمْ تَبْخَلْ وَلَمْ تُعْطِ » لم يتواردا على محلٍّ واحد؛ حتَّى يتكاذَبا، فلا يلزمُ من عدمِ التقدير الذي قدَّره ابن عطية كَذبُ البيت، وبهذا الذي ذكرتُه يتعيَّنُ فسادُ قولِ مَنْ زعَمَ أنَّ هذا البيتَ مِمَّا تنازعَ فيه ثلاثةُ عواملَ : سُئِلْتَ وتَبْخَلْ وتُعْطِ، وذلك لأن قوله :« وَلَمْ تَبْخَلْ » على قولِ هذا القائلِ متسلِّطٌ على طائِل، فكأنه قيل : فلم تَبْخَلْ بطائلٍ، وإذا لم يبخَلْ به، فقد بذله وأعطاه، فيناقضُه قوله بعد ذلك « ولَمْ تُعْطِ نَائِلاً ».


الصفحة التالية
Icon