وقد أفسد ابنُ الخطيب جواب ابنِ عطيَّة فقال :« أجَابَ الجمهُور ب » إنْ لَمْ تُبَلِّغْ وَاحِداً مِنْهَا، كُنْت كَمَنْ لَمْ يُبَلِّغْ شَيْئاً «، وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ مَنْ ترك البعضَ وأتَى بالبعض، فإن قيل : إنه ترك الكلَّ، كان كذباً، ولو قيل : إن مقدار الجُرْمِ في ترك البعْضِ مثلُ الجرم في ترك الكل، فهذا هو المُحالُ الممتنعُ؛ فسقط هذا الجوابُ، والأصحُّ عندي : أن يقال : خرج هذا الجوابُ على قانون قوله :[ الرجز ]
٢٠٠٨- أنَا أبُو النَّجْمِ وشِعْرِي شِعْرِي... ومعناه : أنَّ شِعْرِي قد بلغَ في الكمالِ والفصَاحَةِ والمتانَةِ إلى حيْثُ متى قيل : إنه شِعْري، فقد انتهى مدحُه إلى الغايَةِ التي لا يُزَادُ عليها، وهذا الكلامُ يفيد المبالغةَ التامَّةَ من هذا الوجهِ، فكذا هنا، كأنه قال : فإن لم تبلِّغْ رسالاتِه، فما بلَّغْتَ رسالاته، يعني : أنه لا يمكنُ أن يوصَفَ ترْكُ التبليغِ بتهديدٍ أعظمَ من أنه ترك التبليغ، فكان ذلك تنبيهاً على غايةِ التهديد والوعيد »
.
قال أبو حيان :« وما ضعَّفَ به جوابَ الجُمْهور لا يُضَعَّفُ به؛ لأنه قال :» فإنْ قيل : إنه تركَ الكُلَّ، كان كذباً «، ولم يقولوا ذلك، إنما قالوا : إنَّ بعضها ليس أوْلَى بالأداء مِن بعضٍ، فإن لم تُؤدِّ بعضها، فكأنَّك أغْفَلْتَ أداءَها جميعَها، كما أن مَنْ لم يؤمِنْ ببعضها كان كَمَنْ لم يؤمنْ بكلِّها؛ لإدلاءِ كلٍّ منها بما يُدْلِي به غيرُها، وكونُها كذلك في حكْمِ شيءٍ واحدٍ، والشيءُ الواحدُ لا يكون مبلَّغاً غير مبلَّغ، مُؤمَناً به غيرَ مؤمنٍ به؛ فصار ذلك التبليغُ للبعضِ غير معتدٍّ به »، قال شهاب الدين : وهذا الكلام الأنِيقُ، أعني : ما وقع به الجواب عن اعتراضِ الرَّازِيِّ كلامُ الزمخشري أخَذَه ونقله إلى هنا، وتمامُ كلام الزمخشريِّ : أن قال بعد قوله :« غَيْرَ مُؤمَنٍ »، وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - :« إنْ كَتَمْتَ آيَةً لَمْ تُبَلِّغْ رِسَالاَتِي »، وروي عن رسول الله ﷺ أنه قال :« بَعَثَنِي الله بِرِسَالاتِهِ، فَضِقْتُ بِهَا ذَرْعاً، فأوْحَى الله إلَيَّ : إنْ لَمْ تُبَلِّغْ رِسَالاتِي، عَذَّبْتُكَ وضَمِنَ لِي العِصْمَةِ؛ فقَوِيتُ »، قال أبو حيَّان :« وأما ما ذكر من أن مقدار الجُرْمِ في تَرْكِ البعْضِ مثلُ الجُرْم في ترك الكلِّ مُحالٌ ممتنعٌ، فلا استحالة فيه؛ لأن الله تعالى أن يرتِّب على الذنْبِ اليسيرِ العقابَ العظيمَ، وبالعكس، ثم مَثَّلَ بالسارقِ الآخِذِ خفيةً يُقْطَعُ ويُرَدُّ ما أخَذَ، وبالغاصبِ يُؤخَذُ منه ما أخذ دونَ قَطْعٍ ».


الصفحة التالية
Icon