الوجه الثاني : أنَّ « إنَّ » بمعنى « نَعَمْ » فهي حرفُ جوابٍ، ولا محلَّ لها حينئذ، وعلى هذا فما بعدها مرفوعُ المحلِّ على الابتداء، وما بعده معطوفٌ عليه بالرفعِ، وخبرُ الجميعِ قوله :« مَنْ آمَنَ » إلى آخره، وكونُها بمعنى « نَعَمْ » قولٌ مرجوحٌ، قال به بعضُ النحْويِّين، وجعل من ذلك قوله تعالى :﴿ إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ ﴾ [ طه : ٦٣ ] في قراءةِ من قرأهُ بالألف، وفي الآية كلامٌ طويلٌ يأتي - إنْ شاء الله تعالى - في موضعه، وجعل منه أيضاً قول عبد الله بْنِ الزُّبَيْر :« إنَّ وصاحبهَا » جواباً لمنْ قال له :« لَعَنَ الله ناقَةً حَمَلَتْنِي إلَيْكَ »، أي : نَعَمْ وصاحِبهَا، وجعل منه قول الآخر :[ الكامل ]
٢٠١٢- بََرَزَ الغَوَانِي فِي الشَّبَا | بِ يَلُمْنَنِي وألُومُهُنَّهْ |
ويَقُلْنَ شَيْبٌ قَدْ عَلاَ | كَ وَقَدْ كَبِرْتَ فَقُلْتُ إنَّهْ |
الوجه الثالث : أن يكون معطوفاً على الضَّميرِ المستكنِّ في « هَادُوا » أي : هَادُوا هم والصَّابئُونَ، وهذا قول الكسائيِّ، ورَدَّه تلميذُهُ الفرَّاء والزَّجَّاج. قال الزَّجَّاج :« هو خطأٌ من جهتَيْن » :
إحداهما : أن الصابئ في هذا القولِ يشاركُ اليهوديَّ في اليهوديَّة، وليس كذلك، فإن الصابئ هو غيرُ اليهوديِّ، وإن جُعِلَ « هَادُوا » بمعنى « تَابُوا » من قوله تعالى :﴿ إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ ﴾ [ الأعراف : ١٥٦ ] لا من اليهوديَّة، ويكون المعنى : تابوا هم والصابئون، فالتفسيرُ قد جاء بغير ذلك؛ لأنَّ معنى « الَّذِينَ آمَنُوا » في هذه الآية؛ إنما هو إيمانٌ بأفواهِهِم؛ لأنه يريد به المنافقين؛ لأنه وصفُ الذين آمَنُوا بأفواههمْ ولم تؤمِنْ قلوبُهُمْ، ثم ذكر اليهودَ والنصارى، فقال : مَنْ آمَنَ منهُمْ بالله، فله كذا، فجعَلَهُمْ يهوداً ونصارى، فلو كانوا مؤمنين، لم يحتجْ أنْ يقال :« مَنْ آمَنَ، فَلَهُمْ أجْرُهُمْ »، وأُجِيبَ بأن هذا على أحدِ القولينِ، أعني : أنَّ « الَّذِينَ آمَنُوا » مؤمنُونَ نفاقاً، ورَدَّهُ أبو البقاء ومكي بن أبي طالبٍ بوجه آخر، وهو عدمُ تأكيدِ الضمير المعْطُوفِ عليه، قال شهاب الدين : هذا لا يلزمُ الكسائيَّ من حيث إنه قال بقولٍ تردُّه الدلائلُ الصحيحةُ، والله أعلم، وهذا القولُ قد نقله مكيٌّ عن الفرَّاء، كما نقله غيره عن الكسائيِّ، وردَّ عليه بما تقدَّمَ، فيحتملُ أن يكونَ الفرَّاء كان يوافق الكسائيَّ، ثم رجَع، ويحتمل أن يكون مخالفاً له، ثم رجع إليه، وعلى الجُمْلةِ، فيجوز أن يكونَ له في المَسْألة قولان.