ويجُوزُ أن يكون « لأكَفِّرَنَّ » جواباً لقوله تعالى قبل ذلك :﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ ﴾ لما تضمَّنه الميثاق [ من ] معنى القَسَمِ، وعلى هذا فتكُون الجُمْلتان، أعني قوله :« وَبعثْنَا » « وقال اللَّهُ » فيهما وجهان :
أحدهما : أنَّها في محلِّ نَصْب على الحال.
الثاني : أن تكونا جملتي اعتراضٍ، والظَّاهر أنَّ قوله :« لَئِن أقَمْتُم » جوابه « لأكَفِّرَنَّ » كما تقدَّم، وجملة هذا القسم المَشْروط وجوابه مُفسرة لذلِكَ المِيثَاق المتقدم.
والتَّعْزِيرُ التَّعْظيم.
قال :[ الوافر ]
١٩٤٤- وَكَمْ مِنْ ماجِدٍ لَهُمُ كَرِيمٍ | وَمِنْ لَيْثٍ يُعزَّرُ في النَّدِيِّ |
وقال الفرَّاء : هو الردَّ عن الظُّلْم.
وقال الزَّجَّاج : هو الرَّدْعُ والمَنْعُ، فعلى القَوْلَين الأوَّليْن يكون المعنى : وعظَّمْتُموهم [ وأثنيت ] عليهم خيراً، وعلى الثَّالث والرابع يكون المعنى : وَرَدَدْتُمْ وَرَدعْتُمْ عنهم سُفَاءَهُم.
قال الزَّجَّاج : عَزَّرْت فُلاناً فعلتُ به ما يردعه عن القَبِيح [ مثل نكلت ]، فعلى هذا يكون « عزَّرْتُمُوهُمْ » رددتم عنهم أعْدَاءَهُم.
وقرأ الحَسَنُ البَصْرِي « بِرُسْلِي » بسُكُونِ السِّين حيث وَقَع.
وقرأ الجَحْدَرِيُّ :« وَعَزَرْتُمُوهم » خفيفَةَ الزَّاي، وهي لغة.
وقرأ في [ الفتح : ٩ ] [ « وَتَعْزُرُوه » ] بفتح عين المضارعةِ، وسكون العين، وضم الزَّاي، وهي موافقة لقراءته هنا، وتقدَّم الكلام في نَصْب « قَرْضاً » في [ البقرة : ٢٤٥ ].
فإن قيل : لم أخَّر الإيمان بالرُّسُل عن إقامة الصلاة وإيتاء الزَّكاة، مع أنه مُقدَّم عليهما؟.
فالجواب : أنَّ اليهود كانوا مُقرِّين بأنَّه لا بد في حُصُول النَّجاة من إقَامَةِ الصلاةِ، وإيتاء الزَّكاة، إلاَّ أنَّهم كانوا مُصرِّين على تكذيب بعض الرُّسلِ، فذكر بعد إقامة الصَّلاة وإيتاء الزَّكاة أنَّه لا بد من الإيمان بجميع الرُّسل حتى يحصُلَ المَقْصُود، وإلاَّ لم يكن لإقامة الصلاة وإيتاء الزَّكاة تأثير في حُصول النَّجاة بدون الإيمان بجميع الرُّسُل.
فإن قيل : قوله :﴿ وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً ﴾ دخل تحت إيتاء الزَّكاة، فما فائدة الإعَادة؟.
فالجواب : أنَّ المراد بالزَّكاة الواجبة، وبالقرض الصَّدقة المندوبة، وخصَّها بالذِّكر تنبيهاً على شَرَفها.
قال الفرَّاء : ولو قال : وأقرضتم الله إقراضاً حسناً، لكان صَوَاباً، إلا أنَّه قد يقام الاسْمُ مقام المَصْدَر، ومثله ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ ﴾ [ آل عمران : ٣٧ ]، ولم يقل : يتَقَبَّل، وقوله :﴿ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً ﴾ [ آل عمران : ٣٧ ] ولم يقل إنباتاً.
قوله سبحانه :﴿ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل ﴾.
أي : أخطأ الطَّرِيق المسْتَقِيم الذي هو الدِّين المَشْرُوع لهم، وقد تقدَّم الكلامُ على سَوَاءِ السَّبِيل.
فإن قيل : من كفر قبل ذلك أيضاً فقد ضَلَّ سواء السَّبيل؟ فالجوابُ : نعم، ولكن الضَّلال بعده أظْهر وأعْظَم؛ لأنَّ الكُفْرَ إنما عَظُم قُبْحُه لعظم النِّعْمَة المَكْفُورة، فإذا زادت النِّعْمة زاد قُبْحُ الكُفْرِ.