قوله تعالى :﴿ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ ﴾ الآية.
قد تقدَّم الكلامُ على نَظِيره.
قال القُرْطُبِي : والمعنى : فبنقضهم ميثاقهم، و « مَا » زائدة للتَّوْكيد.
قال قتادةُ وغيرُه : وذلك أنَّها تؤكِّد الكلام بمعنى تمكنه في النَّفْس من جهة حسن النَّظْم، ومن جهة تَكْثِيرِه [ للتَّوْكِيد ]، كقوله [ الوافر ]

١٩٤٥-................. لِشَيْءٍ مَّا يُسَوَّدُ مَنْ يَسُودُ
وقيل : نَقْضُ الميثاق تكْذيبُ الرُّسل، وقيل : الأنْبِيَاء عليهم الصلاة والسلام، وقيل : كِتْمَانهم صفة مُحَمَّد ﷺ، وقيل : المَجْمُوع.
وقال عطاء :« لَعَنَّاهم » أبعدناهم من رحمتنا، وقال الحسن ومُقاتل : مسَخْنَاهم قِرَدة وخنازير. وقال ابن عبَّاس : ضربنا الجِزْية عَلَيْهِم.
قوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ﴾.
قرأ الجمهور « قَاسِيَة » اسم فاعل من قَسَا يَقْسُو.
وقرأ الأخوان وهي قراءة عَبْد الله « قَسِيَّة » بفتح القاف وكَسْرِ السِّين وتشديد اليَاء، واختلف الناس في هذه القراءة.
فقال الفَارِسي : لَيْسَت من ألْفَاظِ العرب [ في الأصل ]، وإنَّما هي كَلِمَةٌ أعْجَمِيَّةٌ معرَّبة، يعني أنها مأخوذَةٌ من قولهم : درهم قَسِيّ، أي : مَغْشُوش، شبَّه قلوبهم في كونها غير صَافِية من الكَدَرِ بالدَّراهم المَغْشوشة غير الخَالِصَة، وأنْشَدُوا قول أبي زُبَيْد :[ البسيط ]
١٩٤٦- لها صَوَاهِلُ فِي صُمِّ السِّلامِ كَمَا صَاحَ القَسِيَّاتُ في أيْدِي الصَّيَارِيفِ
وقول الآخر :[ الطويل ]
١٩٤٧- وَمَا زَوَّدُونِي غَيْرَ سَحْقِ عمَامَةٍ وَخَمْسِ مِىءٍ مِنْهَا قَسِيٌّ وَزَائِفُ
وقال الزَّمَخْشَرِي، وقرأ عبد الله « قسيَّة »، أي : رديئة مغشوشة من قولهم :« درهم قَسيّ »، وهو من القَسْوة؛ لأن الذَّهَبَ والفضَّةَ الخالِصَيْن فيهما لين، والمغشوش فيه صلابةٌ ويُبْسٌ والقَاسِي والقاسِح بالحاء المهملة أخوان في الدَّلالة على اليُبْس.
وهذا القول سبقه إليه « المُبَرِّد »، فإنه قال :« يسمى الدِّرْهم المَغْشُوش قَسِيًّا لصلابته وشدَّتهِ للغِشِّ الذي فيه »، وهو يرجعُ للمعنى الأوَّل، والقاسِي والقَاسِح بمعنى واحد.
وعلى هذين القَولَيْن تكون اللَّفظة عَرَبيَّةً.
وقيل : بل هذه القِرَاءَةُ توافق قِراءَة الجَمَاعَة في المعنى والاشْتِقَاق؛ لأنَّه « فَعِيل » للمُبَالغة ك « شاهد »، و « شهيد »، فكذلك قاسٍ وقَسِيّ، وإنما أنِّث على معنى الجماعةِ في المعنى والاشْتِقَاق.
وقرأ الهَيْصَم بن شداخ :« قُسِيَّة » بضم القَافِ وتشديد اليَاء.
وقرئ « قِسِيَّة » بكسر القاف إتْبَاعاً، وأصْلُ القراءَتَيْن :« قاسِوَة »، و « قَسِيوة » لأن الاشْتِقَاق من القَسْوة.

فصل


والمعنى أنَّ قلوبهم ليست بخالصة الإيمان، بل إيمانُهُم مشوبٌ بالكُفْرِ والنِّفَاق، وقيل : نائيةٌ عن قُبُول الحقِّ، مُنْصَرِفة عن الانقيادِ للدَّلائل.
وقالت المُعْتَزِلَة : أخْبِرْنا عنها بأنَّها صارت قَاسِيَة، كما يُقَال : فلانٌ جعل فُلاناً قاسِياً وعدْلاً. ثم إنَّه تعالى ذكر بَعْضَ نتائج تلك القَسْوَة، فقال :﴿ يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ ﴾ وهذا التَّحْرِيفُ هو تَبْدِيلُهم نعت النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وآله وسلَّم -، وقيل : التَّأويل البَاطل.


الصفحة التالية
Icon