الوجه التاسع : قال مكيٌّ :« وإنما رفع » الصَّابِئُونَ « ؛ لأن » إنَّ « لم يظهر لها عملٌ في » الَّذينَ « فبقي المعطوفُ على رفعه الأصليِّ قبل دخول » إنَّ « على الجملة »، قلت : وهذا هو بعينه مذهَبُ الفراء، أعني : أنه يجيز العطف على محلِّ اسم « إنَّ » إذا لم يظهر فيه إعرابٌ، إلا أن عبارة مَكيٍّ لا توافق هذا ظاهراً.
قال ابنُ الخطيبِ مُعَلِّلاً قول الفرَّاء : أن « إنَّ » ضعيفةٌ في العَمَلِ هاهنا، وبيانُهُ مِنْ وجوه :
الأوَّلُ : أنَّ كلمة « إنَّ » لم تَعْمَلْ إلاَّ لكوْنِهَا مُشابِهَة للفِعْل، ومعلُومٌ أنَّ المشابَهَة بين الفِعْلِ والحَرْفِ ضَعِيفَةٌ.
الثاني : أنَّها، وإن كانَت تَعْمَل في الاسمِ فقط، أمَّا الخَبَر، فإنَّه يبقى مَرْفُوعاً، لِكَوْنِه خَبَرَ المُبْتَدَأ، وليس لهذا الحرف في رَفْعٍ الخَبَرِ تَأثيرٌ، وهذا مَذْهَبُ الكُوفيِّين.
والثالث : أنَّهَا إنما يَظْهَرُ أثَرُهَا في تَغْيير الأسْمَاءِ أمَّا الأسماءُ الَّتِي لا تَتَغيَّرُ عند اختلافِ العوامل، فلا يظهر أثَرُ هذا الحرف فيها، والأمر هاهُنا كذلك؛ لأنَّ الاسمَ هاهُنَا هو قوله « الَّذِين » وهذه الكَلِمَةُ لا يظهر فيها أثَرُ النَّصْبِ والرَّفْعِ والخَفْضِ.
وَإذا ثبت هذا فَنَقُولُ : إذَا كان اسم « إنَّ » بحيث لا يَظْهَرُ فيه أثَرُ الإعراب، فالَّذِي يُعْطَفُ عليه يجُوز النَّصْبُ فيه على إعْمَال هذا الحَرْفِ، والرَّفْعُ على إسْقَاطِ عَمَلِه، فلا يَجُوز أن يُقَال :« إنَّ زيداً وعَمْراً قَائِمَان » لأنَّ زيْداً ظهر فِيهَا أثَرُ الإعراب، ويجُوزُ أن يُقَال :« إنَّ هؤلاءِ إخْوتكَ يُكْرِمُونَنَا، وإنَّ قَطَامَ وهِنْد عِنْدنَا » والسَّبَبُ في جَوَازِ ذلك أنَّ كَلِمَة « إنَّ » كانَتْ في الأصْلِ ضعيفَةُ العَمَل، فإذَا صارت بِحَيْثُ لا يَظْهَرُ لَهَا أثَرٌ في اسمهَا صَارَتْ في غاية الضَّعفِ، فجاز الرَّفْعُ بِمُقْتَضَى الحُكْم الثَّابِتِ قبل دخول هذا الحَرْفِ عليه، وهو كَونُهُ مُبْتَدأ، فهذا تَقْرِير قول الفرَّاء، وهو مَذْهَبٌ حَسَنٌ، وأولى من مذهَبِ البصْرِيِّين؛ لأن الَّذي قالوه يَقْتَضِي أنَّ كلام الله على التَّرْتِيب الَّذِي وردَ عليه ليس بصحيح، وإنَّمَا تَحصُل الصِّحَّة عند تَفْكيكِ هذا النَّظْمِ، وعلى قوْلِ الفرَّاءِ فلا حاجَةَ إليه، فكَانَ ذلك أوْلَى.