والمقصودُ : بيان عُيُوب بني إسرائيل، وشدَّة تَمَرُّدهم عن الوفاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ، وهذا مُتعلِّقٌ بأوَّلِ السُّورة، وهو قولُه تعالى :﴿ أَوْفُواْ بالعقود ﴾ [ المائدة : ١ ].
قوله تعالى :﴿ كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ ﴾ : قد تقدَّم الكلامُ [ الآية ٢٠ من البقرة ] على « كُلَّمَا » مشبَعاً، فأغْنَى عن إعادته، وقال الزمخشريُّ :« كُلَّمَا جاءَهُمْ رسولٌ » جملةٌ شرطيةٌ وقعت صفةٌ ل « رُسُلاً »، والراجعٌ محذوفٌ، أي :« رسولٌ منهُمْ »، ثم قال :« فإنْ قلتَ : أينَ جوابُ الشرط، فإنَّ قوله :﴿ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ ﴾ ناب عن الجواب؛ لأنَّ الرسولَ الواحدَ لا يكون فريقَيْن؛ ولأنه لا يحسُن أن تقول :» إنْ أكْرَمْتَ أخِي، أخَاك أكْرَمْتُ « ؟ قلتُ : هو محذوفٌ؛ يَدُلُّ عليه قوله :﴿ فَرِيقاً كَذَّبُواْ، وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ ﴾، كأنه قيل : كلما جاءهم رسولٌ، ناصَبُوه، وقوله :» فَرِيقاً كَذَّبُوا « جوابٌ مستأنفٌ لقائلٍ يقول : كيف فعلُوا برسُلِهِمْ؟ » قال أبو حيان :« وليس » كُلَّمَا « شرطاً، بل » كُلَّ « منصوبٌ على الظرف و » مَا « مصدريةٌ ظرفيةٌ، ولم يجزم العربُ ب » كُلَّّمَا « أصلاً، ومع تسليم أن » كُلَّمَا « شرط؛ فلا يمتنع؛ لما ذكر، أمّا الأول؛ فلأنَّ المرادَ ب » رَسُول « الجنسُ لا واحدٌ بعينه، فيصحُّ انقسامُه إلى فريقَيْن؛ نحو :» لا أصْحَبُكَ ما طَلَع نَجْمٌ « أي : جنس النجوم، وأما الثاني؛ فيعني أنه لا يجوزُ تقديمُ معمولِ جوابِ الشرط عليه ». وهذا الذي منعه إنما منعه الفرَّاءُ وحدَه، وأما غيرُه، فأجاز ذلك، وهذا مع تسليم أنَّ « كُلَّمَا » شرط، وأمَّا إذا مشينا على أنَّها ظرفيةٌ، فلا حاجة إلى الاعتذارِ عن ذلك، ولا يمتنعُ تقديمُ معمولِ الفعلِ العاملِ في « كُلَّمَا » تقول :« كُلَّمَا جِئْتَنِي أخَاكَ أكْرَمْتُ »، قال شهاب الدين : هذا واضحٌ من أنها ليستْ شرطاً، وهذه العبارةُ تكثُرُ في عبارة الفقهاءِ دُونَ النُّحَاةِ، وفي عبارة أبي البقاء ما يُشْعر بما قاله الزمخشريُّ، فإنه قال :« وَكَذَّبُوا » جواب « كُلَّمَا » و « فَرِيقاً » مفعول ب « كَذَّبُوا »، و « فَرِيقاً » منصوب ب « يَقْتُلُونَ »، وإنما قدَّمَ مفعول « يَقْتُلُونَ » لتواخي رؤوس الآي، وقدَّم مفعولَ « كَذَّبُوا » مناسبةً لما بعده.
قال الزمخشريُّ :« فإنْ قلت : لِمَ جِيءَ بأحد الفعلَيْن ماضياً، وبالآخر مضارعاً؟ قلتُ : جِيء ب » يَقْتُلُونَ « على حكايةِ الحالِ الماضية؛ استفظاعاً للقتلِ، واستحضاراً لتلْكَ الحالِ الشنيعةِ؛ للتعجُّبِ منها ». انتهى، وقد يقال : فلِمَ لا حُكِيَتْ حالُ التكْذيبِ أيضاً، فيُجَاءُ بالفعْلِ مضارعاً لذلك؟ ويجَابُ بأنَّ الاستفظاع في القتلِ وشناعَتِهِ أكثرُ من فظاعةِ التكذيبِ، وأيضاً؛ فإنه لمَّا جيء به مضارعاً ناسب رؤوس الآي.