الوجه الرابع : أن الضمير عائدٌ على مَنْ تقدَّم، و « كَثِيرٌ » خبر مبتدأ محذوف، وقدَّره مكي تقديرين : أحدهما : قال :« تقديرُه العُمْيُ والصُّمُّ كثيرٌ منهم »، والثاني : العَمَى والصَّمَمُ كثيرٌ منهم؛ ودلَّ على ذلك قوله :﴿ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ ﴾، فعلى تقديره الأوَّل : يكون « كَثِيرٌ » صادقاً عليهم و « مِنْهُمْ » صفة ل « كَثِير » ؛ وعلى التقدير الثاني : يكون « كَثِيرٌ » صادقاً على العَمَى والصَّمَمِ لا عليهِمْ، و « مِنْهُمْ » صفةٌ له بمعنى أنه صادرٌ منهم، وهذا الثاني غيرُ ظاهرٍ، وقدَّره الزمخشريُّ فقال :« أولَئِكَ كَثِيرٌ منهم ».
الوجه الخامس : أنَّ « كَثيرٌ » مبتدأ والجملةُ الفعليَّة قبله خبرٌ، ولا يُقالُ : إنَّ الفعلَ متى وقع خبراً، وجبَ تأخيرُه؛ لأنَّ ذلك مشروطٌ بكونِ الفاعل مستتراً؛ نحو :« زَيْدٌ قَامَ » ؛ لأنه لو قُدِّم، فقيل :« قَامَ زَيْدٌ »، لألبس بالفاعل، فإن قيلَ : وهذا أيضاً يُلْبِس بالفاعلِ في لغة « أكَلُونِي البَراغيثُ »، فالجواب : أنها لغةٌ ضعيفةٌ لا نبالي بها، وضعَّفَ أبو البقاء هذا الوجه بمعنًى آخَرَ، فقال :« لأنَّ الفعل قد وقَعَ في موضِعِه، فلا يُنْوَى به غيرُه »، وفيه نظرٌ؛ لأنَّا لا نُسَلِّم أنه وقع موقعه، وإنما كان واقعاً لو كان مجرَّداً من علامةٍ، ومثلُ هذه الآيةِ أيضاً قوله تعالى :﴿ وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ ﴾ [ الأنبياء : ٣ ].
والجمهورُ على « عَمُوا وصَمُّوا » بفتح العين والصاد، والأصل : عَمِيُوا وصَمِمُوا؛ كَشَرِبُوا، فأعِلَّ الأولُ بالحذفِ، والثَّاني بالإدغامِ، وقرأ يحيى بن وثَّاب وإبراهيم النخعي بضم العين والصاد وتخفيف الميم من « عَمُوا »، قال الزمخشريُّ :« على تقدير عَمَاهُمُ الله وصَمَّهُمْ، أي : رَمَاهُمْ وضَرَبَهُمْ بالعَمَى والصَّمَمِ؛ كما يقال : نَزَكْتُهُ إذا ضَرَبْتَهُ بالنَّيْزَكِ، وركَبْتُهُ إذا ضَرَبْتَهُ بِرُكْبَتِكَ »، ولم يعترضْ عليه أبو حيان - رحمه الله -، وكان قد قال قبل ذلك بعد أن حكى القراءة :« جَرَتْ مَجْرَى زُكِمَ الرجُلُ، وأزْكَمَهُ الله، وحُمَّ وأحَمَّه الله، ولا يقال : زَكَمَهُ الله ولا حَمَّهُ؛ كما لا يقال : عَمَيْتُهُ ولا صَمَمْتُه، وهي أفعالٌ جاءت مبنيَّةً للمفعول الذي لم يُسَمَّ فاعلُه، وهي متعدِّيةٌ ثلاثيةٌ، فإذا بُنيتْ للفاعلِ، صارتْ قاصرةً، فإذا أردت بناءَها للفاعلِ متعدِّيةً، أدخَلْتَ همزة النقْلِ، وهي نوعٌ غريبٌ في الأفعال ». انتهى، فقوله :« كمَا لا يُقَالُ عَمَيْتُهُ ولا صَمَمْتُهُ » يقتضي أن الثلاثيَّ منها لا يتعدَّى، والزمخشريُّ قد قال على تقدير :« عَمَاهُمُ الله وصَمَّهُمْ » فاستعملَ ثلاثيَّةُ متعدِّياً، فإن كان ما قاله أبو حيان صحيحاً، فينبغي أن يكون كلام الزمخشريِّ فاسداً أو بالعكس.