هذا كلامُ أهل اللغة في القِسِّيسِ، ثم قال :« وقال عروةُ بْنُ الزُّبيرِ : ضَيَّعَتِ النصارى الإنجيلَ وما فيه، وبَقِيَ منهمْ رَجُلٌ يقالُ له قِسِّيسٌ » يعني : بقي على دينه لم يُبَدِّلْهُ، فمَنْ بَقِيَ على هديه ودينه ومذهبه، قيل له :« قِسِّيسٌ »، وقال قطربٌ : القَسُّ والقِسِّيسُ : العَالِمُ بلغة الرُّوم؛ قال وَرَقَةُ :[ الوافر ]
٢٠٣٧أ- بِمَا خَبَّرْتَنا مِنْ قَوْلِ قَسٍّ
مِنَ الرُّهْبَانِ أكْرَهُ أنْ يَبُوحَا
فعلى هذا : القَسُّ والقِسِّيسُ مما اتفق فيه اللغتان، قلتُ : وهذا يُقَوِّي قول ابن عطيَّة، ولم ينقلْ أهلُ اللغة في هذا اللفظ « القُسّ » بضم القاف، لا مصدراً ولا وصْفاً، فأما قُسُّ بْنُ سَاعِدَةَ الإيَادِيُّ، فهو عَلَمٌ، فيجوز أن يكون مِمَّا غُيِّرَ بطريق العلمية، ويكون أصلُه « قَسٌّ » أو « قِسٌّ » بالفتح أو الكسر؛ كما نقله ابن عطية، وقُسُّ بْنُ ساعدَةَ كان أعلم أهْلِ زمانِهِ، وهو الذي قال فيه عليه السلام :« يُبْعَثُ أمَّةً وَحْدَهُ »، وأمَّا جمعُ قِسِّيسٍ، فجمعُ تصحيحٍ؛ كما في الآية الكريمة، قال الفراء :« ولو جُمِعَ قَسُوساً »، كان صواباً؛ لأنهما في معنًى واحدٍ «، يعني : قِسًّا » و « قِسِّيساً »، قال : ويُجْمَعُ القِسِّيسُ على « قَسَاوِسَة » جمعوه على مثال المَهَالبَة، والأصلُ : قَسَاسِسَة، فكثُرت السِّينَاتِ فأُبْدِلت إحداهُنَّ واواً، وأنشدوا لأميَّة :[ البسيط ]
٢٠٣٧ب- لَوْ كَانَ مُنْفَلِتٌ كَانَتْ قَسَاوِسَةٌ
.........................
قال الواحديُّ :« والقُسوسَة مصدرُ القِسِّ والقِسِّيس »، قلت : كأنه جعل هذا المصدر مشتقًّا من هذا الاسْمِ؛ كالأبُوَّة والأخُوَّة والفُتُوَّة من لفظ أبٍ وأخٍ وفَتًى، وتقدم أن القَسَّ بالفتحِ في الأصْل هو المصدرُ، وأنَّ العالِمَ سُمِّيَ به مبالغةً، قال شهاب الدين : ولا أدري ما حملَ مَنْ قال : إنه معرَّب مع وجودِ معناه في لغة العربِ كما تقدم؟.
والرُّهْبَانُ : جمعُ رَاهِبٍ؛ كَرَاكِبٍ ورُكْبَانٍ، وفَارِسٍ وفُرْسانٍ، وقال أبو الهيثمِ :« إنَّ رُهْبَاناً يكُونُ واحِداً ويكون جَمْعاً » ؛ وأنشد على كونه مفرداً قول الشاعر :[ الرجز ]
٢٠٣٨- لَوْ عَايَنَتْ رُهْبَانَ دَيْرٍ في القُلَلْ
لأقْبَلَ الرُّهْبَانُ يَعْدُو ونَزَلْ
ولو كان جمعاً، لقال :« يَعْدُونَ » و « نَزَلُوا » بضمير الجمع، وهذا لا حُجَّة فيه؛ لأنه قد عاد ضميرُ المفْرَدِ على الجَمْعِ الصريحِ؛ لتأوُّله بواحدٍ؛ كقوله تعالى :﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ ﴾ [ النحل : ٦٦ ]، فالهاء في « بُطُونِهِ » تعود على الأنعامِ؛ وقال :[ الرجز ]
٢٠٣٩- وَطَابَ ألْبَانُ اللِّقَاحِ وَبَرَدْ... في « بَرَدَ » ضميرٌ يعودُ على « ألْبَان »، وقالوا :« هو أحْسَنُ الفِتْيَانِ وأجملُه » ؛ وقال الآخر :[ الرجز ]