والمرادُ : المبالغةُ في وصفهم بالبكاءِ، أو يكونُ المعنى أنَّ أعينَهُمْ تمتلئُ حتى تفيضَ؛ لأنَّ الفيضَ ناشئٌ عن الامتلاءِ؛ كقوله :[ الطويل ]

٢٠٤٤- قَوَارِصُ تَأتِينِي وَتَحْتَقِرُونَهَا وَقَدْ يَمْلأ المَاءُ الإنَاءَ فَيُفْعَمُ
وإلى هذين المعنَيَيْن نحا الزمخشريُّ؛ فإنه قال :« فإنْ قلت : ما معنى ﴿ تَفِيضُ مِنَ الدمع ﴾ ؟ قلتُ : معناه تَمْتَلِئُ من الدمْع حتَّى تفيضَ؛ لأنَّ الفيضَ أنْ يتملئَ الإناءُ حتَّى يَطْلُعَ ما فيه من جوانبه، فوضَعَ الفيضَ الذي هو من الامتلاءِ موضعَ الامتلاء، وهو من إقامةِ المسبَّب مُقام السَّبَب، أو قصدت المبالغةَ في وصفهم بالبكاء، فجعلْتَ أعينهم، كأنها تفيضُ بأنفسها، أي : تسيلُ من الدمعِ؛ من أجلِ البكاءِ، من قولك، دَمَعتْ عَيْنُهُ دَمْعاً ».
قوله تعالى « مِنَ الدَّمْعِ » فيه أربعةُ أوجه :
أحدها : أنه متعلِّقٌ ب « تَفِيضُ »، ويكون معنى « مِن » ابتداء الغاية، والمعنى : تَفِيضُ من كثرة الدمع.
والثاني : أنه متعلِّقٌ بمحذوف؛ على أنه حالٌ من الفاعلِ في « تَفِيضُ » قالهما أبو البقاء، وقَدَّر الحالَ بقولك :« مَمْلُوءَةً من الدَّمْعِ »، وفيه نظر؛ لأنه كونٌ مقيَّدٌ، ولا يجوزُ ذلك، فبقيَ أن يُقَدَّرَ كوناً مطلقاً، أي : تفيضُ كائنةً من الدمْعِ، وليس المعنى على ذلك، فالقولُ بالحاليةِ لا ينبغي، فإن قيل : هل يجوزُ عند الكوفيين أن يكون « مِنَ الدَّمْعِ » تمييزاً؛ لأنهم لا يَشْترطُونَ تنكيرَ التمييز، والأصل : تفيض دمعاً؛ كقولك :« تَفَقَّأ زَيْدٌ شَحْماً »، فهو من المنتصب عن تمام الكلام؟ قيل : إن ذلك لا يجوزُ، لأنَّ التمييز، إذا كان منقولاً من الفاعلية، امتنع دخولُ « مِنْ » عليه، وإن كانت مقدَّرة معه، فلا يجوز :« تَفَقَّأ زَيْدٌ من شَحْمٍ »، وهذا - كما رأيت - مجرورٌ ب « مِنْ » ؛ فامتنع أن يكون تمييزاً، إلا أن الزمخشريَّ في سورة براءة [ الآية ٩٢ ] جعله تمييزاً في قوله تعالى :﴿ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع ﴾، ولا بدَّ من نقلِ نصِّه لتعرفه؛ قال - رحمه الله تعالى - :﴿ تَفِيضُ مِنَ الدمع ﴾ كقولك :« تَفِيضُ دَمْعاً »، وهو أبلغُ من قولِك : يفيضُ دَمْعُها؛ لأنَّ العينَ جُعِلَتْ كأنها دمعٌ فائضٌ، و « مِنْ » للبيان؛ كقولك :« أفديكَ مِنْ رَجُلٍ »، ومحلُّ الجارِّ والمجرور النصبُ على التمييز « ؛ وفيه ما قد عرفْتَه من المانِعَيْنِ، وهو كونُه معرفةً، وكونُه جُرَّ ب » مِنْ « وهو فاعلٌ في الأصْل، وسيأتي لهذا مزيدُ بيانٍ؛ فعلى هذا : تكونُ هذه الآية الكريمةُ كتلك عنده، وهو الوجهُ الثالث.
الرابع : أنَّ »
مِنْ « بمعنى الباء، أي : تفيضُ بالدمْعِ، وكونُها بمعنى الباء رأيٌ ضعيفٌ، وجعلوا منه أيضاً قوله تعالى :﴿ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ ﴾ [ الشورى : ٤٥ ] أي : بِطَرْفٍ؛ كما أنَّ الباءَ تأتي بمعنى » مِنْ « ؛ كقوله :[ الطويل ]


الصفحة التالية
Icon