وهذا النَّوْعُ الثَّانِي من الأحْكام المذْكُورَةِ، ووَجْهُ المُنَاسَبَةِ بَيْنَ هذا الحُكْم والَّذِي قَبْلَهُ حتى حَسُنَ ذِكْرُهُ عَقِيبَهُ، أنَّا ذكرنَا أنَّ سبب نزول الآية : أنَّ قوماً من الصَّحابَةِ - رضي الله عنهم أجمعين - حرَّموا على أنْفُسِهِمُ المطاعِمَ والمَلاَذَّ، واخْتَارُوا الرَّهْبَانِيَّةَ، وحَلَفُوا على ذلك، فلما نَهَاهُمُ اللَّهُ تعالى عنْ ذلك قالُوا : يا رسُول اللَّه، فَكَيْفَ نَصْنَعُ بأيْمَانِنَا؟ فأنْزَلَ اللَّهُ هذه الآيَة، وقدْ تقدَّم إعرابُ نَظيرهَا في البَقَرةِ واشْتِقَاق مُفْرَدَاتِها.
قوله تعالى :﴿ ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان ﴾.
قرأ حمزة والكسائيُّ وأبو بكْرٍ عن عاصم :« عَقَدتُمْ » بتخفيف القاف دون ألف بعد العين، وابن ذَكْوَان عن ابن عامر :« عَاقَدتُّمْ » بزنة « فاعَلْتُمْ » والباقون :« عَقَّدتُّمْ » بتشديد القاف، فأمَّا التخفيفُ، فهو الأصل، وأمَّا التشديدُ، فيحتمل أوجهاً :
أحدها : أنه للتكثير؛ لأنَّ المخاطبَ به جماعةٌ.
والثاني : أنه بمعنى المجرَّدِ، فيوافِقُ القراءة الأولى، ونحوه : قَدَّرَ وقَدَرَ.
والثالث : أنه يَدُلُّ على توكيد اليمين، نحو :« واللَّهِ الَّذِي لا إلهَ إلاَّ هُوَ ».
والرابع : أنه يدلُّ على تأكيد العزم بالالتزام.
الخامس : أنه عِوَضٌ من الألف في القراءة الأخرى، وقال شهاب الدين : ولا أدري ما معناه ولا يجوز أن يكون لتكرير اليمين، فإنَّ الكفارةَ تَجِبُ ولو بمَرَّةٍ واحدةٍ.
وقد تَجَرَّأ أبو عُبَيْدٍ على هذه القراءةِ وزيَّفَها، فقال :« التشديدُ للتكريرِ مرةً من بعد مرَّة، ولستُ آمَنُ أن تُوجِبَ هذه القراءةُ سقوطَ الكفَّارةِ في اليمينِ الواحدة؛ لأنها لم تُكَرَّرْ ». وقد وَهَّموه الناسُ في ذلك، وذكروا تلك المعاني المتقدِّمة.
وأجَاب الواحِدِي بوجْهَيْن :
الأول : أنَّ بعضَهُم قال : عَقَدْتُم بالتَّخفيفِ وبالتَّشْديدِ واحدٌ في المعنى.
والثاني : هَبْ أنَّها تُفِيدُ التكرير، كَمَا في قوله تعالى :﴿ وَغَلَّقَتِ الأبواب ﴾ [ يوسف : ٢٣ ]، إلاَّ أنَّ هذا التكريرَ يحصل بأن يَعْقِدَهَا بقَلْبِهِ ولِسَانِه، ومتَى جَمَعَ بَيْنَ القَلْبِ واللِّسَانِ فَقَدْ حَصَلَ التَّكْرِيرُ، أمَّا لَوْ عُقِدَ اليَمِينُ بأحَدِهِمَا دُونَ الآخَر لَمْ يَكُن منعقداً لَهَا فَسَلِمَتِ القِرَاءَةُ تِلاوَةً ولِلَّهِ الحَمْدُ.
وأمَّا « عَاقَدَتْ »، فيُحتملُ أن تكون بمعنى [ المجرَّد نحو ] :« جَاوَزْتُ الشَّيْءَ وَجُزْتُهُ »، وقال الفارسيُّ :« عَاقَدتُمْ » يحتمل أمرين :
أحدهما : أن يكون بمعنى « فَعَلَ »، كطَارَقْتُ النَّعْلَ، وعَاقَبْتُ اللِّصَّ.
والآخر : أن يُرَادَ به « فاعَلْتُ » التي تقتضي فاعلين؛ كأن المعنى : بما عَاقَدتُّمْ علَيْهِ الأيْمَانَ، عَدَّاه ب « عَلَى » لمَّا كان بمعنى عَاهَدَ، قال :﴿ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الله ﴾ [ الفتح : ١٠ ] ؛ نحو :﴿ نَادَيْتُمْ إِلَى الصلاة ﴾ [ المائدة : ٥٨ ] ب « إلَى »، وبابُها أن تقول : نَادَيْتُ زَيْداً؛ نحو :﴿ وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطور ﴾ [ مريم : ٥٢ ] لمَّا كانت بمعنى دَعَوْتُ إلى كذا، قال :﴿ مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله ﴾ [ فصلت : ٣٣ ] ثم اتُّسِعَ فحُذِفَ الجارُّ، ونُقِلَ الفعلُ إلى المفعْول، ثم حُذِفَ من قوله :