﴿ فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ ﴾ [ الحجر : ٩٤ ]، قال شهاب الدين : يريد - رحمه الله - أن يبيِّنَ معنى « المُفَاعَلَةِ »، فأتى بهذه النظائر للتضمين، ولحذفِ العائدِ على التدريج، والمعنى : بِمَا عَاقَدتُّمْ عليه الأيْمَانَ، وعاقَدَتْكُمُ الأيْمَانُ عليه، فنَسَبَ المعاقَدَةَ إلى الأيْمَانِ مجازاً، ولقائل أن يقول : قد لا نَحْتَاجُ إلى عائدٍ حتَّى نحتاجَ إلى هذا التكلُّفِ الكثير، وذلك بأن نجعل « مَا » مصدريةً، والمفعولُ محذوفٌ، تقديرُه : بِمَا عَاقَدتُّمْ غيْرَكُمُ الأيْمَانَ، أيْ : بمُعَاقدتِكُمْ غيرَكُمُ الأيْمَانَ، ونخلُصُ من مجازٍ آخر، وهو نسبةُ المعاقدةِ إلى الأيمان؛ فإنَّ في هذا الوجه نسبة المعاقَدَةِ للغَيْرِ، وهي نسبةٌ حقيقية، وقد نَصَّ على هذا الوجه - جماعةٌ.
قالُوا :« مَا » مَعَ الفِعْلِ بِمَنْزِلةِ المصْدَرِ، ولكِن يُؤاخِذُكُم بِعَقْدِكُمْ، أوْ بِتَعْقِيدِكُمْ، أو بِمُعَاقَدَتِكُم الأيْمَان إذا خنتم، فحذف وقتاً لمؤاخَذَة؛ لأنَّه مَعْلُومٌ، أو يَنْكُثُ ما عَاقَدْتُمْ، فَحَذَفَ المُضَافَ.
وقد تعقَّبَ أبو حيان على أبي عليٍّ كلامَهُ؛ فقال :« قوله : إنَّه مثل » طارَقْتُ النَّعْلَ « و » عَاقَبْتُ اللِّصَّ «، ليس مثله؛ لأنَّك لا تقول : طَرَقْتُ ولا عَقَبْتُ، وتقول : عاقدتُّ اليمينَ، وعقدُّهَا »، وهذا غيرُ لازم لأبي عليٍّ؛ لأنّ مرادَه أنه مثلُه من حَيْثُ إنَّ « المُفَاعَلَةَ » بمعنى أن المشاركة من اثنين منتفيةٌ عنه؛ كانتفائها من عاقَبْتُ وطارَقْتُ، أمَّا كونُه يقالُ فيه أيضاً كذا، فلا يضُرُّه ذلك في التشبيه، وقال أيضاً :« تقديرُه حذف حَرْفِ الجرِّ، ثم الضمير على التدرُّج - بعيدٌ، وليس بنظيرِ :﴿ فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ ﴾ [ الحجر : ٩٤ ] ؛ لأن » أمَرَ « بتعدَّى بنفسِه تارةً، وبحرف الجرِّ أخرى، وإن كان الأصلُ الحَرْفَ، وأيضاً ف » مَا « في » فَاصْدَعْ بِمَا « لا يتعيَّن أن تكون بمعنى » الَّذي « بل الظاهر أنها مصدريَّةٌ، [ وكذلك ههنا الأحسنُ : أن تكون مصدريةً ] لمقابلتها بالمصْدرِ، وهو اللَّغْوُ ».
قال الوَاحِدِي : يُقَالُ : عَقَدَ فلانٌ اليمينَ والعهدَ والحبلَ عَقْداً، إذَا وكَّده وأحْكَمَهُ، ومثل ذلك أيضاً « عَقَّدَ » بالتَّشْديد إذا وكَّدَ، ومثله : عَاقَد بالألفِ.
وقد تقدم الكلامُ في سورة النِّساء عند قوله تعالى :﴿ والذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ [ الآية : ٣٣ ] و « عاقَدت »، وذُكِرَ في هذه ثلاثُ قراءاتٍ في المشْهُور، وفي تِيكَ قراءتانِ، وقد تقدم في النساء أنه رُوِيَ عن حمزة :« عَقَّدَتْ » بالتشديد فيكون فيها أيضاً ثلاثُ قراءاتٍ، وهو اتفاقٌ غريبٌ، فإنَّ حمزة من أصحابِ التخفيفِ في هذه السورة، وقد رُوِيَ عنه التثقيلُ في النساء.
والمرادُ بقوله :« عقَّدتم، وعاقَدْتُم » أي : قَصَدْتُم وتَعمَّدْتُم، وتقدَّم الكلامُ على ذلك في سُورةِ البَقَرةِ.
قوله تعالى :﴿ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ ﴾ مبتدأ وخبر، والضميرُ في « فَكَفَّارتُهُ » فيه أربعةُ أوجه :
أحدها : أنه يعودُ على الحِنْثِ الدَّالِّ عليه سياقُ الكلام، وإنْ لم يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ، أي : فكفَّارةُ الحِنْثِ.