وقال أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه - : إنْ أطعم من الحِنْطَةِ فنِصْفُ صَاعٍ، وإنْ أطعم من غيرها فصاعٌ، وهو قول الشَّعْبِيِّ، والنَّخْعِيِّ، وسعيد بن جُبَيْرٍ، ومُجَاهِد، والحكم - رحمهم الله - ولو غدَّاهم وعشَّاهُمْ لا يجُوزُ، وجوَّزهُ أبُو حنيفةَ - رضي الله عنه -، ويُروَى ذَلِكَ عن عليٍّ - رضي الله عنه -، ولا يَجُوزُ الدَّرَاهِمُ و الدَّنَانِيرُ، ولا الخُبْزُ، والدَّقِيقُ، بل يَجِبُ إخْرَاجُ الحَبِّ إليْهِم، وجوَّز أبُو حنيفةَ - رضي الله عنه - كُلَّ عشرةٍ إلى مسكينٍ واحدٍ في عشرة أيام ولا يَجُوزُ أن يُصرَف إلا إلى مُسْلِمٍ حر مُحْتَاج، فإن صُرِفَ إلى ذِمِّيٍّ أوْ عَبْدٍ أو غَنِيٍّ لَمْ يَجُزْ، وجوَّز أبُو حنيفةَ صرْفَهُ إلى أهْلِ الذَّمَّةِ، واتَّفَقُوا على أنَّ صَرْفَ الزَّكَاةِ إلى أهْلِ الذَّمَّة لا يَجُوزُ.

فصل


واختلفُوا في الوسط.
فقيل : مِنْ خَيْر قُوتِ عيالِكُمْ، والوسَطُ : الخُبْزُ [ وتقدم في البقرة في ] قوله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ].
وقال عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ : الأوْسَطُ الخُبْزُ والْخَلُّ، والأعلى الخُبْزُ واللَّحْم، والأدْنَى الخُبْزُ البحْتُ، والكُلُّ يُجْزِئُ.
قوله تعالى :« أوْ كِسْوَتُهُمْ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه نَسَقٌ على « إطْعَام »، أي : فكفارتُه إطعامُ عشرةٍ أو كسْوَة تلك العشرة.
والثاني : أنه عطفٌ على محلِّ « مِنْ أوْسَط » [ وهو أن يكون « مِنْ أوسط » خبراً لمبتدأ محذوفٍ يدُلُّ عليه ما قبله، تقديرُه : طعامُهُمْ مِنْ أوْسَط ]، فالكلامُ عنده تامٌّ على قوله « عَشرةِ مساكِينَ »، ثم ابتدأ إخباراً آخر بأن الطعام يكونُ من أوسط كذا وأمَّا إذا قلنا : إنَّ « مِنْ أوْسَطِ » هو المفعولُ الثاني، فيستحيل عطف « كِسْوَتُهُمْ » عليه؛ لتخالفهما إعراباً.
وقرأ الجمهور :« كِسْوتُهُمْ » بكسر الكاف. وقرأ إبراهيمُ النخعيُّ وأبو عبد الرحمن السُّلَمِيُّ وسعيدُ بنُ المُسَيِّب بضمِّها، وقد تقدَّم في البقرة [ الآية ٢٣٣ ] أنهما لغتان في المصدر، وفي الشيء المَكْسُوِّ، قال الزمخشريُّ :« كالقِدْوَة في القُدْوَة، والإسْوَة في الأسْوَة » إلا أن الذي قرأ في البقرة بضَمِّها هو طلحة فلم يذكُرُوه هنا، ولا ذكَرُوا هؤلاء هناك.
وقرأ سعيدُ بن جُبَيْر وابنُ السَّميفع :« أوْ كأسْوتِهِمْ » بكاف الجر الداخلة على « أُسْوَة » قال الزمخشريُّ :« بمعنى : أو مِثْلُ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ، إسْرَافاً أو تَقْتيراً، لا تُنْقصونَهُمْ عن مقْدارِ نفقتِهِمْ، ولكنْ تواسُونَ بينهم، فإنْ قُلْتَ : ما محلُّ الكافِ؟ قلتُ : الرفعُ، تقديرُه : أو طعَامُهُمْ كأسوتِهِمْ، بمعنى : كَمِثْلِ طعامهم، إن لَمْ يُطْعِمُوهُم الأوْسَطَ ». انتهى، وكان قد تقدم أنه يجعل « مِنْ أوسَطِ » مرفوع المحلِّ خبراً لمبتدأ محذوف، فتكونُ الكاف عنده مرفوعةً؛ عطفاً على « مِنْ أوْسَطِ »، وقال أبو البقاء قريباً من هذا؛ فإنه قال :« فالكاف في موضعِ رفعٍ أي : أو مِثْلُ أسْوَةِ أهْلِيكُمْ »، وقال أبو حيان :« إنه في موضع نصْبٍ عطفاً على محلِّ : مِنْ أوْسطَ » ؛ لأنه عنده مفعولٌ ثان، إلاَّ أنَّ هذه القراءة تنفي الكسْوةَ من الكَفَّارةِ، وقد أجمعَ الناسُ على أنها إحدى الخصَالِ الثلاثِ، لكن لصاحب هذه القراءة أن يقول :« اسْتُفيدتِ الكسْوةُ من السُّنَّةِ »، أمَّا لو قام الإجماعُ على أن مستندَ الكسْوَة في الكفَّارة من الآية؛ فإنه يَصِحُّ الردُّ على هذا القارئ.


الصفحة التالية
Icon