هذا هو النَّوْعُ الثَّالثُ من الأحْكَامِ المذكُورَةِ هُنَا، ووجهُ اتِّصاله بما قبله، أنَّه - تعالى - قال :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ ﴾ [ المائدة : ٨٧ ]، إلى قوله تعالى :﴿ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلاَلاً طَيِّباً ﴾ [ المائدة : ٨٨ ]، ثم كان من جُمْلَةِ الأمُورِ المستَطَابَة للجُمْهُورِ الخَمْرُ والمَيْسِرُ، فبيَّن الله - تعالى - أنَّهُمَا غير دَاخِلَيْن في المُحَلَّلات، بل في المُحرَّمَات، وقد تقدَّم بَيَانُ الخَمْرِ والمَيْسِر في سُورة البَقرَة [ البقرة ٢١٩ ]، وبيان الأنْصَاب والأزلام في أوَّل هذه السُّورة [ المائدة ٣ ].
وفي اشتِقَاقَ الخَمْرِ وجهان :
أحدهما : سُمِّيَ خَمْراً لِمُخَامَرَته العقل، أي : خَالَطَتْهُ فَسَتَرَتْهُ.
الثاني : قال ابنُ الأعْرَابِي : تُرِكَتْ فاخْتَمَرَتْ، أي : تَغَيَّر رِيحُهَا.
فصل
قال القُرْطُبِي : تحريمُ الخَمْرِ كان بالتَّدْرِيج ونَوازِلَ كَثِيرة، لأنَّهُمْ كانوا مُولَعِينَ بشُرْبِهَا، وأوَّلُ ما نزلَ في أمْرِهَا :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ﴾ [ البقرة : ٢١٩ ]، أي : في تِجَارَتِهِم، فلما نَزلَتْ هذه الآيةُ تركَهَا بَعْضُ النَّاس، وقالُوا : لا حَاجَةَ لنا فِيمَا يَشْغَلُنَا عَنِ الصلاة، وشَرِبَهَا بَعْضُهُمْ في غَيْرِ أوقاتِ الصَّلاة، حتى نَزَلَتْ هذه الآيَةُ، فصارتْ حَرَاماً عَلَيْهم، وذلك في ستة ثلاث من الهِجْرَة بعد وَقْعَةِ أُحُد.
قوله تعالى :« رجسٌ » : خبرٌ عن هذه الأشياء المتقدِّمة، فيقال : كيف أخبر عن جَمْع بمفردٍ؟ فأجاب الزمخشريُّ بأنه على حَذْف مضافٍ، أي : إنما شأنُ الخَمْرِ، وكذا وكذا، ذكر ذلك عند تعرُّضِه للضَّميرِ في « فاجْتَنِبُوهُ » كما سيأتي، وكذا قدَّره أبو البقاء، فقال :« لأنَّ التقدير : إنما عَمَلُ هذه الأشياء ». قال أبو حيان بعد حكايته كلامَ الزمخشريِّ : ولا حاجة إلى هذا، بل الحكم على هذه الأربعة نفسها أنَّها رِجْسٌ أبلغُ من تقدير هذا المضاف؛ كقوله :﴿ إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ ﴾ [ التوبة : ٢٨ ]، وهو كلامٌ حسن، وأجاب أبو البقاء أيضاً بأنه يجوزُ أن يكونَ « رِجْسٌ » خبراً عن « الخَمْر »، وحُذِفَ خبرُ المعطوفاتِ؛ لدلالةِ خبر الأولِ عليها، قال شهاب الدين : وعلى هذا : فيجوزُ أن يكونَ خبراً عن الآخر، وحُذِفَ خبرُ ما قبله؛ لدلالةِ خبر ما بعده عليه؛ لأنَّ لنا في نحو قوله تعالى :﴿ والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ﴾ [ التوبة : ٦٢ ] هذين التقديرين، وقد تقدَّم تحقيقُهما مراراً.
والرجسُ قال الراغب :« هو الشيْءُ القَذِرُ، رجلٌ رِجْسٌ، ورِجَالٌ أرْجَاسٌ »، ثم قال :« وقيل : رِجْسٌ ورِجْزٌ للصَّوْت الشديد، يقال : بَعِيرٌ رَجَّاسٌ : شديدُ الهدير، وغمامٌ راجِسٌ ورجَّاسٌ : شديدُ الرعْد »، وقال الزجَّاج : هو اسمٌ لكلِّ ما استُقْذِرَ من عمل قبيحٍ، يقال : رَجِسَ ورَجَسَ بكسر الجيم وفتحها يَرْجُسُ رِجْساً إذا عمل عملاً قبيحاً، وأصله من الرَّجْسِ بفتح الراء، وهو شدة صوت الرعد؛ قال :[ الرجز ]