لما حكى عن اليهود والنَّصارى نَقْضَ العَهْد، دَعَاهُم بعد ذلك إلى الإيمان بِمُحَمَّد ﷺ، فقال :﴿ يَا أَهْلَ الكتاب ﴾ وأراد اليَهُود والنَّصَارى، وَوَحَّد « الكِتَاب » إرادة للْجِنْس.
ثم قال :﴿ يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ ﴾.
قال ابن عباس : أخْفُوا آية الرَّجْمِ من التَّوْراة وبَيَّنَها الرَّسُول - عليه السلام - لهم، وهو لَمْ يَقْرأ [ كتاباً ] ولم يتعلَّم علماً من أحَد، وهذه مُعْجِزة، وأخفوا صِفَةَ مُحَمَّد - ﷺ - في الإنْجِيلِ، وغير ذَلِك.
قوله :« يُبَيِّن » في محلِّ نَصْب على الحَال من « رَسُولُنَا »، أي : جَاءَكم رسولُنا في هذه الحالة، و « ممَّا يتعلَّق بَمْحذُوف؛ لأنَّه صِفَة ل » كَثيراً «، و » مَا « موصولةٌ اسميَّة، و » تُخْفُون « صلتُهَا، والعائد مَحْذُوفٌ، أي : من الذين كُنْتُم تُخْفُونَهُ، و » مِن الكِتَابِ « متعلِّق بِمَحْذُوف على أنَّه حالٌ من العَائِد المَحْذُوف.
وقوله :﴿ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ ﴾، أي : لا يُظْهِر كثيراً مما كُنْتُم تُخْفُون من الكِتَاب، فلا يتعرَّض لكم، ولا يُؤاخذكم به؛ لأنَّه لا حاجةَ له إلى إظْهَارِهِ، والفَائِدةُ في ذلك : أنهم علموا كَوْنَ الرَّسُول عالماً بكُلِّ ما يُخْفُونَه، فيصير ذلك داعياً لهم إلى تَرْكِ الإخْفَاء، لئلا يفتضح أمرهم.
والضَّمِير في » يُبَيِّنُ « و » يَعْفُو « يعود على الرَّسُول.
وقد جوَّز قومٌ أن يعود على الله تعالى، وعلى هذا فلا مَحَلَّ لِقَوْلِهِ :» يُبَيِّنُ « من الإعراب، ويمتنعُ أن يكون حَالاً من » رَسُولُنَا « لعدم الرَّابِط، وصِفَةُ » كَثِير « محذوفة لِلْعِلْمِ بها، وتَقْدِيرُه : عن كثير من ذُنُوبِكُمْ، وحذف الصِّفَة قَلِيلٌ.
قوله :﴿ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ ﴾ لا محلَّ له [ من الإعراب ] لاستئنَافِه، و » من اللَّه « يَجُوز أن يتعلق ب » جاء «، وأن يتعلَّق بمحذُوف على أنَّه حَالٌ من » نُورٌ «، قدِّمت صفة النَّكرة عليها، فنُصِبَتْ حالاً.
فصل في معنى الآية
والمراد بالنُّور : محمد - ﷺ -، وبالكتاب : القُرْآن، وقيل : المراد بالنُّور : الإسلام، وبالكِتَاب القُرْآن، وقيل : النُّور والكتاب والقُرْآن، وهذا ضعيفُ؛ لأنَّ العَطْفَ يوجبُ التَّغَاير.
قوله تعالى :» يَهْدِي « فيه خَمْسَة أوجه :
أظهرها : أنَّه في محلِّ رفْع؛ لأنَّهُ صفة ثَانِيَةٌ ل » كِتَاب «، وصفَهُ بالمفرد ثم بالْجُمْلَة، وهو الأصْلُ.
الثاني : أن يكون صِفَةً أيضاً لكن ل » نُورٌ «، وصَفَهُ بالمُفْرَد ثم بالجُمْلَة، ذكره أبو البقاء وفيه نظر، إذ القَاعِدَةُ أنَّه إذا اجْتَمَعَتِ التَّوابع قُدِّم النَّعْت على عَطْف النَّسَق، تقول جاء زَيْدٌ العَاقِل وعَمْرو، ولا تقُولُ : جاء زيْدٌ وعمرو العَاقِل؛ لأنَّ فيه إلباساً أيضاً.