الثالث : أنه منصوبٌ على المصدْرِ، أي : يُهْدِيهِ هَدْياً، ذكره مكي وأبو البقاء.
الرابع : أنه منصوبٌ على التَّمْييزِ، قال أبو البقاء ومكيٌّ، إلا أنَّ مَكِّياً، قال :« على البيانِ »، وهو التمييزُ في المعنى، وكأنهما ظَنَّا أنه تمييزٌ لِما أبْهِمَ في المِثْلية؛ إذ ليس هنا شيءٌ يَصْلُحُ للتمييزِ غيرَها، وفيه نظرٌ؛ من حيث إنَّ التمييزَ إنما يَرْفَع الإبهامَ عن الذَّواتِ، لا عن الصفاتِ، وهذا كما رأيْتَ إنما رفع إبهاماً عن صفة؛ لأنَّ الهدي صفةٌ في المعنى؛ إذ المرادُ به مُهْدى.
الخامس : أنه منصوبٌ على محلِّ « مِثْل » فيمَنْ خَفَضه؛ لأنَّ محلَّه النصبُ بعملِ المصدرِ فيه تقديراً؛ كما تقدَّم تحريرُه.
السادس : أنه بدلٌ من « جَزَاء » فيمن نصبه. و « بَالِغَ الكَعْبَةِ » صفةٌ ل « هَدْياً »، ولم يتعرَّفْ بالإضافة؛ لأنه عاملٌ في الكعبة النصبَ تقديراً، ومثله :﴿ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ﴾ [ الأحقاف : ٢٤ ] وقولُ الآخَرِ :[ البسيط ]
٢٠٢٥- يَا رُبَّ غَابِطِنَا لَوْ كانَ يَطْلُبُكُمْ | لاقَى مُبَاعَدَةً مِنْكُمْ وحِرْمَانَا |
فصل
المعنى : يَحْكُمَانِ بِهِ هَدْياً يُسَاقُ إلى الكَعْبَة، فَيُنْحَرُ هُنَاك، وهذا يُؤيِّد قول من أوْجَبَ المِثْلَ من طريق الخِلْقَةِ؛ لأنه تعالى لَمْ يَقُلْ : يَحْكُمَان به شَيْئاً يُشْتَرى به هَدْيٌ، وإنَّما قال : يَحْكُمان به هَدْياً، وهذا صَرِيحٌ في أنَّهما يَحْكُمَان به شَيْئاً يُشْتَرى به هَدْيٌ، وإنَّما قال : يَحْكُمَان به شيئاً يُشْتَرى به ما يَكُونُ هَدْياً وهذا بعيد عن الظَّاهِر.
وسمِّيت الكَعْبَةُ كَعْبَةً لارتفاعها، والعَرَبُ تُسَمِّي كل بَيْتٍ مرتفعٍ كَعْبَةً، والكَعْبَةُ هنا إنَّما أُريدَ بها كلُّ الحَرَم؛ لأنَّ الذبْحَ والنَّحْر لا يُفعَلان في الكَعْبَة، ولا عندها ملاصِقاً لها، ونَظِيرُهُ قوله تعالى :﴿ ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق ﴾ [ الحج : ٣٣ ]، والمُرَادُ بِبُلُوغِهِ للكَعْبة : أنْ يَذْبَح بالحرم، ويتصدَّق باللَّحْمِ على مساكينِ الحَرَمِ.
وقال أبو حنيفة - رضي الله عنه - : له أنْ يتصدَّق به حيث شاءَ، كما أنَّ لَهُ أن يصُومَ حيْثُ شاء، وحجَّةُ القولِ الأوَّل : أنَّ الذَبْحَ إيلامٌ، فلا يجُوزُ أن يكُون قُرْبَةً، بل القُرْبَةُ إيصَالُ اللَّحْم إلى الفقَراءِ.
قوله :« أو كَفَّارةٌ » عطفٌ على قوله :« فَجَزَاءٌ »، و « أوْ » هنا للتخيير، ونُقِل عن ابن عباس؛ أنها ليسَتْ للتخيير، بل للترتيب، وهذا على قراءةِ مَنْ رفع « فَجَزَاءٌ »، وأمَّا مَنْ نصبه، فقال الزمخشريُّ : جعلها خَبَرَ مبتدأ محذوفٍ؛ كأنه قيل : أو الواجبُ عليه كفَّارةٌ، ويجوزُ أن تُقَدَّرَ : فعليه أن يجْزِي جزاءً، أو كفارةً، فتعطفَ « كَفَّارة » على « أنْ يَجْزِيَ »، يعني أنَّ « عليه » يكونُ خبراً مقدَّماً، و « أن يَجْزِيَ » مبتدأ مؤخَّراً، فعطفت « الكفَّارة » على هذا المبتدأ، وقرأ نافع وابنُ عامرٍ بإضافة « كَفَّارة » لما بعدها، والباقون بتنوينها، ورفع ما بعدها.