قوله :« قِياماً » [ قراءة الجمهورُ بألفٍ بعد الياء، وابنُ عامرٍ :« قِيَماً » دون ألف بزنة « عِنَبٍ »، والقيامُ هنا يحتملُ أن يكون مصدراً ل « قَامَ - يَقُومُ »، والمعنى : أنَّ اللَّهَ جَعَلَ الكعبةَ سَبَباً لقيام النَّاسِ إليها، أي : لزيارتها والحجِّ إليها، أو لأنَّها يَصْلُح عندها أمرُ دينهِمْ ودُنْيَاهُمْ، فيها يَقُومُونَ، ويجوزُ أنْ يكونَ القيامُ بمعنى القوامِ، فقُلِبَتِ الواوُ ياءً؛ لانكسارِ ما قبلها، كذا قال الواحديُّ، وفيه نظرٌ؛ إذ لا موجبَ لإعلاله؛ إذ هو :« السِّوَاكِ »، فينبغي أن يقال : إنَّ القيامَ والقوامَ بمعنًى واحدٍ؛ قال :[ الرجز ]
٢٠٥٤- قِوَامُ دُنْيَا وقِوَامُ دِينِ... فأمَّا إذا دخلها تاءُ التأنيث، لَزِمَتِ الياءُ؛ نحو :« القِيَامَة »، وأمَّا قراءةُ ابن عامر، فاستشكلها بعضُهم بأنه لا يَخْلُو : إمَّا أنْ يكون مصدراً على فعلٍ، وإما أن يكون على فعالٍ، فإن كان الأوَّل، فينبغي أن تصِحُّ الواوُ ك « حِوَلٍ » و « عوَرٍ »، وإن كان الثاني، فالقصر لا يأتي إلا في شِعْرٍ، وقرأ الجَحْدَرِيُّ :« قَيِّماً » بتشديد الياء، وهو اسمٌ دالٌّ على ثبوت الصفة، وقد تقدَّم تحقيقُه أوَّلَ النساء [ الآية ٥ ] ].
فصل في معنى الآية
معنى كونه قِيَاماً للنَّاسِ أي : سَبَبٌ لقوَامِ مصالِح النَّاسِ في أمر دينهم ودُنيَاهم أمَّا الدِّين؛ فلأنَّ به يقوم الحَجُّ والمَنَاسِكُ، وأمَّا الدُّنْيَا : فبما يُجْبَى إليه من الثَّمَرَات، وكانوا يَأمَنُونُ فيه من النَّهْبِ والغَارَةِ، فلا يتعرَّضُ لهم أحَدٌ من الحرمِ، فكأنَّ أهلَ الحرمِ آمِنين على أنْفُسِهِم وأمْوَالِهِم، حتَّى لو لَقِيَ الرَّجُلُ قَاتِل أبيه وابنِهِ لم يتعرَّضْ لَهُ، ولو جَنَى الرَّجُلُ أعظم الجِنَايَاتِ ثُمَّ التَجَأ إلى الحَرَمِ، لُمْ يُتعَرَّضْ له، قال تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ ﴾ [ العنكبوت : ٦٧ ].
والمرادُ بقوله :« قِيَاماً للنَّاس » أي : لِبَعْضِ النَّاسِ وهم العرب، وإنَّما حَسُنَ هذا المجازُ؛ لأنَّ أهْلَ كلِّ بَلَدٍ إذا قالُوا : النَّاسُ فَعَلُوا [ وصنعُوا ] كذا «، فهُم لا يُرِيدُون إلاَّ أهْلَ بلدِهمْ، فلهَذَا السَّبَب خُوطِبُوا بهذا الخطاب على وفقِ عادَتِهِم.