قوله :﴿ والشهر الحرام والهدي والقلائد ﴾ عطف على « الكَعْبَة »، والمفعول الثاني أو الحال محذوفٌ، لفهم المعنى، أي : جعل الله أيضاً الشَّهْرَ والهَدْيَ والقلائِدَ قِيَاماً.
واعلم : أنَّه تعالى جعل هذه الأرْبَعَةَ أشْيَاء أسْبَاباً لِقِيام النَّاسِ وقوامِهِم، فأحَدُهَا : الكَعْبَةُ كما تقدَّم بيَانُهُ. وثانيها : الشَّهْرُ الحرامُ، ومعنى كونه سَبَباً لِقيامِ النَّاسِ : هو أنَّ العرب كان يَقْتُلُ بعضهم بعضاً، ويُغِير بعضُهُمْ على بعضٍ في سائرِ الأشْهُرِ، فإذا دخلَ الشَّهْرُ الحرامُ زال الخَوْفُ، وسافَرُوا للتِّجاراتِ، وأمِنُوا على أنْفُسِهِمْ وأمْوَالِهِم، وحَصَّلوا في الشَّهْرِ الحرامِ قُوتَهُمْ طُول السَّنةِ، فلولا الشَّهْرُ الحرام لفَنَوْا وهَلَكُوا من الجُوعِ والشِّدَّةِ، فكان الشَّهْرُ الحَرَامُ سَبَباً لِقوَامِ مَعيشَتِهِمْ.
والمُرادُ بالشَّهْرِ الحرامِ : الأشْهُرُ الحُرُمُ وهي : ذُو القعْدَةِ وذُو الحِجَّة ورَجَب.
وثالثها : الهَدْيُ، ومعنى كونه سَبَباً لقيام النَّاس : لأنَّ الهدْيَ ما يُهْدَى إلى البيتِ، ويُذْبَحُ هُناكَ ويُفَرَّقُ لَحْمُهُ على الفُقَراءِ فيكُونُ ذلِكَ نُسُكاً للمهدي، وقواماً لمعيشَة الفُقراء.
ورابعها : القلائِدُ، ومعنى كونها قواماً للناس : أنَّ من قصدَ البَيْتَ في الشَّهْرِ الحرامِ أوْ فِي غيرِ الشَّهْرِ الحرامِ، معه هديٌ قد قلَّدَه، وقلَّدَ نَفْسَهُ من لِحَاءِ شَجَرِ الحرمِ، لم يتعرَّضْ لَهُ أحَدٌ، حتَّى إنَّ أحَداً من العرب يلقَى الهديَ مُقلَّداً، وهو يموتُ من الجُوعِ فلا يتعرَّضُ له ألْبتَّةَ، ولم يتعرَّضْ لها صاحِبُها أيضاً، وكلُّ ذلِكَ إنَّما كان؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى أوْقَعَ في قُلُوبِهم تَعْظيمَ البيْتِ الحَرَامِ.

فصل


قال القُرْطُبِي : ذكر العُلمَاءُ في جعل اللَّه تعالى هذه الأشياء قِيَاماً للناس، أنَّ اللَّه تعالى خلق الخَلْقَ على سَليقَةِ الآدَميِّين، من التَّحَاسُدِ، والتَّنَافُرِ، والتَّقَاطُعِ، والتدابر، والسَّلْبِ، والغَارَةِ، والقَتْل، والثَّأرِ، فلم يكن بُدٌّ في الحِكْمَة الإلهيَّة أنْ يكُونَ مع الحالِ وازعٌ يُحْمَد معهُ المآلُ، فقال تعالى :﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً ﴾ [ البقرة : ٣٠ ] فأمرهُم الله تعالى بالخلافَةِ، وجعل أمُورهُمْ إلى واحدٍ يَمْنَعُهُم من التَّنَاوشِ، ويَحْملُهُم على التَّآلُف من التَّقَاطُعِ، وردِّ المظالِمِ عن المَظْلُومِ، ويقَرِّر كلَّ يدٍ على ما تَسْتَوْلي عليه.
واعلم : أنَّ جوْرَ السُّلطان عام واحِدٌ أقَلُّ أذاه كونُ النَّاسِ فَوْضَى لحظَةً واحدة، فأنْشَأ اللَّهُ تعالى الخَليقَةَ لهذه الفَائِدَة، لتجرِيَ على رأيه الأمُور، ويَكُف اللَّهُ تعالى به عاديَة الأمُورِ فعظَّم اللَّهُ تعالى في قُلُوبِهِم البَيْتَ الحرامَ، [ وأوقع في قُلُوبهم هَيْبَتَه ] وعظَّم بينهم حُرْمَتَهُ، فكان من لجأ إليه مَعْصُوماً قال تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ ﴾ [ العنكبوت : ٦٧ ].
قوله « ذَلِكَ » فيه ثلاثةُ أوجه :
أحدها : أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي : الحُكْمُ الذي حكمْنَاهُ ذلك لا غيرُه.
والثاني : أنه مبتدأ، وخبره محذوف، أي ذلك الحكمُ هو الحقُّ لا غيره.


الصفحة التالية
Icon