الثالث : أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ يدُلُّ عليه السِّياقُ، أي : شَرَعَ اللَّهُ ذلك، وهذا أقواها؛ لتعلُّقِ لام العلَّة به، و « تَعْلَموا » منصوبٌ بإضمار « أنْ » بعد لام كَيْ، لا بها، و « أنَّ اللَّه » وما في حَيِّزها سادَّةٌ مَسَدَّ المفعولينِ أو أحدهما على حسبِ الخلافِ المتقدِّم، و ﴿ وَأَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ نسقٌ على « أنَّ » قبلها.
فإن قيل : أيُّ اتِّصَالٍ لهذا الكلامِ بمَا قَبْلَهُ.
قيل : لمَّا عَلِمَ في الأزَل أنَّ مُقْتَضَى طِبَاعِ العَرَب الحرص الشَّديد على القَتْلِ والغارَةِ، وعلمَ أنَّ هذه الحالة لو دَامَتْ بهم، لَعَجَزُوا عن تَحْصيلِ ما يَحْتَاجُونَ إليه، وأدَّى ذلك إلى فَنَائِهِم وانْقِطَاعِهِم بالكُلِّيَّة، دَبَّرَ في ذلك تَدْبِيراً لَطِيفاً، وهو أنَّه تعالى ألْقى في قُلُوبِهمْ تَعْظيمَ البَيْتِ الحَرَامِ وتَعْظِيمَ مَنَاسِكهِ، فصار ذلك سبباً لحصُول الأمْن في البلدِ الحرامِ وفي الشَّهْر الحرام، فلمَّا حصل الأمْنُ في هذا المكانِ، وفي هذا الزَّمَانِ، قَدَروا على تَحْصِيلِ ما يَحْتَاجُون إليه في هذا المكانِ، فاسْتَقَامَتْ مصالح مَعَايِشهم، وهذا التَّدْبِيرُ لا يُمكن إلاَّ إذا كان في الأزَلِ عالماً بِجَمِيع المعلُومَاتِ من الكُلِّيَّاتِ والجُزْئِيَّاتِ، وأنَّهُ بِكُلِّ شَيء عليم.
وقيل في الجوابِ : أنَّ الله جعل الكَعْبَة قياماً للنَّاسِ، لأنَّه يَعْلَمُ صلاح العِبَاد، كما يَعْلَمُ ما في السَّماءِ وما في الأرْضِ.
وقال الزَّجَّاج : وقد سبق في هذ السُّورةِ الإخْبَارُ عن الغُيُوبِ، والكَشْف عن الأسْرَارِ، مثل قوله تعالى :﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ ﴾ [ المائدة : ٤١ ]، ومثلُ إخبارِهِ بِتَحْرِيفِهم الكُتُبَ فقوله ذلك ليَعْلَمُوا أنَّ اللَّه يعلمُ ما في السَّموات وما في الأرْض راجِعٌ إليه.
وقوله تعالى :﴿ اعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب وَأَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾، لمَّا ذكر تعالى أنواع رَحْمَتِه لعبادِه، ذكر بَعْدَهُ شِدَّة العقابِ؛ لأنَّ الإيمان لا يَتِمٌُّ إلا بالرَّجَاء والخَوْفِ.
قال - عليه السلام - :« لو وُزِنَ المُؤمِنِ ورَجَاؤُهُ لاعتدَلاَ »، ثُمَّ ذكر بعدهُ ما يَدُلُّ على الرَّحْمَةِ، وهو كونُهُ غَفُوراً رَحِيماً، وهذا يَدُلُّ على أنَّ جانبَ الرَّحْمَةِ أغْلَبُ؛ لأنَّهُ تعالى ذكر فيما قَبْلُ أنْواع رَحْمَتِهِ وكرمِهِ، ثُمَّ ذكرَ أنَّه شَدِيدُ العِقَابِ، ثُمَّ ذكر عَقِيبَهُ وصْفَيْنِ من أوْصَافِ الرحمةِ، وهُوَ كَوْنُهُ غَفُوراً رحيماً، وهذا يَدُلُّ على تَغْلِيبِ جانبِ الرَّحمَةِ على جَانِب العذابِ.
قوله تعالى :﴿ مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ ﴾ لما قدَّم التَّرْغيبَ والتَّرْهيبَ بقوله :﴿ أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب وَأَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾، أتبعه بذِكْرِ التَّكْليفِ، فقال تعالى :﴿ مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ ﴾ يَعْنِي : أنَّهُ مُكَلَّفٌ بالتَّبليغِ، فلما بلَّغ خرجَ عن العُهْدَةِ، وبَقِيَ الأمْرُ من جانِبِنَا، وإذا عَلِمَ بما تُبْدُونَ وما تَكْتُمُونَ فإن خَالَفْتُمْ، فاعلموا أنَّ اللَّهَ شديدُ العقاب، وإنْ أطَعْتُمْ فاعلمُوا أنَّ اللَّه غفورٌ رحيمٌ.
قوله :« إلاَّ البلاغُ » : في رفعه وجهان :
أحدهما : أنه فاعلٌ بالجارِّ قبله؛ لاعتماده على النفي، أي : ما استقرَّ على الرَّسُول إلا البلاغُ.


الصفحة التالية
Icon