وثالثها : أنَّهُم كانوا يَغْتَمُّونَ لِعَشَائِرِهمْ لمَّا مَاتُوا على الكُفْرِ، فَنُهُوا عن ذلك.
قال ابن الخَطيبِ : والأقربُ عِنْدِي، أنَّه تعالى لما حَكَى عَنْ بَعْضِهم أنَّه إذا قِيلَ لَهُمْ :﴿ تَعَالَوْاْ إلى مَآ أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ ﴾ [ المائدة : ١٠٤ ] بيَّن تعالى بهذه الآية، أنَّه لا يَنْبَغِي للمُؤمِنِينَ أنْ يَتَشَبَّهُوا بِهِمْ في هذه الطَّريقَةِ الفَاسِدَةِ، بل يَنْبَغِي أنْ يَصْبِروا على دينهِم، وأنْ يَعْلَمُوا أنَّه لا يَضُرُّهُمْ جَهْلُ أولَئِك.
فصل
رُوِي عن أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيق - رضي الله عنه - أنَّه قال : يا أيُّهَا النَّاسُ، إنَّكُمُ تَقْرَؤُون هذه الآية ﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم ﴾ فإنِّي سَمِعْتُ رسُول الله ﷺ يقول :« إنَّ النَّاس إذا رَأوا مُنْكَراً فَلَمْ يُغيّروه، يُوشِكُ أن يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابِه ».
وفي رواية :« لَتَأمُرُنَّ بالمعرُوفِ، ولتنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ، أو لَيُسَلِّطَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ شِرَارَكُمْ فليَسُومُونكمْ سُوءَ العذابِ، ثُمَّ ليَدْعون اللَّه خيارُكُمْ فَلاَ يُسْتَجَابُ لَكُمْ ».
قال أبُو عُبَيْدة : خاف الصِّدِّيق أن يتأوَّل النَّاسُ الآية غير مُتَأوّلها، فيَدْعُوهم إلى تَرْكِ الأمْرِ بالمعرُوف، فأعْلَمَهُم أنَّها لَيْسَتْ كذلك، وأنَّ الذي أذِنَ في الإمْسَاكِ عن تَغْييرِه من المُنْكر، هو الشِّرْكُ الذي يَنْطِقُ به المُعَاهدُون من أجل أنَّهُم يَتَديَّنُون به، وقد صُولِحُوا عليه، فأمَّا الفُسُوق والعِصْيَان والذَّنْبُ من أهْل الإسلام، فلا يَدْخُلُ فيه.
وعن ابن مسعودٍ قال في هذه الآية : مُرُوا بالمعْرُوف وانْهَوْا عن المُنْكَرِ ما قُبِلَ مِنْكُم، فإن رُدَّ عَلَيْكم فَعَليْكُم أنْفُسَكُمْ.
ثُمَّ قال : إنَّ القُرآنَ نزلَ مِنْهُ آيٌ قد مضى تَأويلهُنَّ قَبْلَ أن يَنْزِلْن، ومِنْهُ آي : وقعَ تَأويلُهُنَّ على عَهْد رسُول الله ﷺ، ومِنْهُ آيٌ : وقعَ تَاوِيلُهُنَّ بَعْدَ رسول الله ﷺ بِيَسِيرٍ، ومنه آي : وقعَ تأويلهن في آخِرِ الزَّمَانِ، ومنه آي : وقعَ تَأويلُهُنَّ يوم القيامة، وهو ما ذُكِرَ من الحِسَابِ والجَنَّةِ والنَّارِ، فما دَامَتْ قلوبُكُمْ وأهْوَاؤكُمْ وَاحِدَةٌ، ولم تلْبسُوا شِيَعاً، ولم يَذُقْ بَعْضُكم بأسَ بَعْض، فأمُرُوا وانْهَوْا، فإن اخْتَلَفت القُلُوبُ والأهْوَاء وألْبِسْتُم شيعاً، وذاقَ بَعْضُكم بأسَ بعض، فامرؤ ونفسهُ، فعِنْدَ ذَلِكَ جَاءَنَا تَأوِيلُ هذه الآيَة.
قال ابنُ الخَطيبِ : وهذا التَّأويلُ عندي ضَعِيفٌ؛ لأنَّ الآيَةَ خِطَابٌ عامٌّ لِلْحَاضِرِ والغَائِبِ، فكيف يُخرجُ الحَاضِر، ويُخَصُّ الغَائِب. ورَوى أبُو أمَيَّة الشَّعبانِيِّ قال :« أتَيْتُ أبا ثَعْلَبَة، فقُلْتُ : كيف نَصْنَعُ في هذه الآية؟ فقال : أيُّ آيةٍ؟ قلت : قَوْلُ الله - عزَّ وجلَّ - :﴿ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾، فقال : أمَا واللَّهِ لَقَدْ سألْتَ عنها خَبِيراً، سألتُ عَنْهَا رسُول الله ﷺ فقال : بَلْ ائتَمِرُوا بالمَعْرُوفِ وتَنَاهوا عن المُنْكَر، حتَّى إذَا رَأيْتَ شُحَّاً مُطَاعاً وهَوًى مُتَّبَعاً، ودُنْيا مُؤثرة، وإعْجَاب كُلِّ ذِي رأيٍ برأيِهِ، ورَأيتَ أمْراً لا بُدَّ لَكَ مِنْهُ، فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ ودَعْ أمْرَ العَوَامِّ، وإنَّ وراءَكُم أيام الصَّبر، فَمَنْ صَبَرَ فيْهنَّ قبض على الجَمْر للعامل فيهنَّ مِثْلُ أجر خَمْسِين رجلاً يعملون مثله »