التقديرُ : كانوا فريقين : فريقاً - أو ناساً - يُصْفُونَ الزجاج، ثم قال :« وآخرين تَرَى الماذِيَّ، ف » آخَرِينَ « من جنْس قولك » فَرِيقاً «، ولم يعتبره بوصفه بقوله » يُصْفُونَ الزِّجاج « ؛ لأنه قَسَّم من ذكر إلى قسمين متباينين بالوصف متحدين بالجنْسِ »، قال :« وهذا الفرقُ قَلَّ مَنْ يَفْهَمُهُ؛ فَضْلاً عَمَّنْ يَعْرفُهُ ».
وقوله :« أو » الظاهرُ أنها للتخْيير، وهو واضحٌ على القول بأن معنى « مِنْ غَيْرِكُمْ » : مِنْ غير أقارِبكُمْ من المسلمين، يعني : المُوصِي مُخَيَّرٌ بيْنَ أنْ يُشْهِدَ اثنَيْنِ من أقاربه، أو من الاجانب المسلمين وقيل :« أوْ » للترتيب : أي : لا يُعْدَلُ عن شاهدين منْكُمْ إلا عِنْدَ فَقْدِهِمَا، وهذا لا يجيءُ إلا إذا قلنا :« مِنْ غَيْرِكُمْ » : من غير أهْلِ مِلَّتِكُمْ.
قوله :« إن أنْتُمْ » « أنْتُمْ » مرفوعٌ بمحذوفٍ يفسِّره ما بعده، وهي مسألة الاشتغالِ، والتقديرُ : إنْ ضَرَبْتمْ، فلما حُذِفَ الفعلُ، انفصلَ الضميرُ، وهذا مذهبُ جمهور البصريِّين، وذهب الأخْفَشُ منهم والكوفيُّون إلى جواز وقوعِ المبتدأ بعد « إن » الشرطيَّةِ؛ كما أجازوه بعد « إذَا » أيضاً، ف « ضَرَبْتُمْ » لا محلَّ له عند الجمهور؛ لكونه مفسِّراً، ومحلُّه الرفعُ عند الكوفيين والأخفش؛ لكونه خبراً؛ ونحوه :﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك ﴾ [ التوبة : ٦ ]، ﴿ إِذَا الشمس كُوِّرَتْ ﴾ [ التكوير : ١ ]. وجوابُ الشرط محذوفٌ يدلُّ عليه قوله تعالى :﴿ اثنان ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ ﴾، ولكنَّ تقدير هذا الجوابِ يتوقَّف على خلافٍ في هذا الشرط : هل هو قيدٌ في أصْلِ الشهادة، أو قيدٌ في ﴿ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ﴾ فقط؟ بمعنى : أنه لا يجوزُ العدولُ في الشهادة على الوصيَّة إلى أهلِ الذمةِ، إلا بشَرْطِ الضرب في الأرض، وهو السفر، فإن قيل : هو شرطٌ في أصْلِ الشهادةِ، فتقديرُ الجواب : إنْ ضَرَبْتُمْ في الأرْضِ، فليشهد اثنانِ منْكُمْ أو من غَيْرِكُمْ، وإنْ كان شرطاً في العدُولِ إلى آخَرَيْنِ من غير الملَّة، فالتقدير : فأشْهِدُوا آخَرَيْنِ من غَيْركم، أو فالشاهِدُ آخَرَانِ من غَيْرِكُمْ، فقد ظهر أنَّ الدَّالَّ على جوابِ الشرط : إمَّا مجموعُ قوله :« اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ... إلى آخره » على القولِ الأوَّل، وإمَّا ﴿ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ﴾ فقط على القولِ الثاني.
والفاء في « فَأصَابتكم » عاطفةٌ هذه الجملة على نَفْسِ الشرط، وقوله تعالى :﴿ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاة ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنها في محلِّ رفع صفة ل « آخَرَانِ » ؛ وعلى هذا : فالجملةُ الشرطيةُ وما عُطِفَ عليها معترضةٌ بين الصفةِ وموصوفها؛ فإنَّ قوله « تَحْبسُونَهُمَا » صفةٌ لقوله « آخَرَانِ »، وإلى هذا ذهب الفارسيُّ، ومكِّي بنُ أبِي طالبٍ، والحُوفيُّ، وأبو البقاء، وابن عطيَّة، وقد أوضحَ الفارسيُّ ذلك بعبارةٍ خاصَّةٍ، فقال :« تَحْبِسُونَهُمَا » صفة ل « آخَرَانِ » واعترض بقوله :﴿ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض ﴾، وأفاد الاعتراضُ : أنَّ العُدولَ إلى آخرين من غير المِلَّة، أو القرابة حَسَبَ اختلافِ العُلَمَاء فيه؛ إنما يكون مع ضرورة السَّفَر، وحلول المَوْت فيه، واستغني عن جواب « إنْ » ؛ لِما تقدَّم في قوله ﴿ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ﴾، فقد ظهر من كلامه : أنه يجعلُ الشرط قيداً في ﴿ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ﴾ فقط لا قيداً في أصْلِ الشهادة، فتقديرُ الجوابِ على رأيه؛ كما تقدَّم :« فاسْتَشْهِدُوا آخَرَيْن مِنْ غَيْرِكُمْ » أو « فالشَّاهِدَانِ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ».