كما تُجُوزُ شَهادَةُ النِّساء فيما يتعلَّقُ بأحْوَالِهِنَّ، كالحَيْضِ والحَبَلِ والولادَةِ والاستِهْلاَلِ؛ لِعَدَم إمْكَانِ وقُوفِ الرِّجَال على هذه الأحْوَال، فاكتُفي بِشَهادةَ النِّسَاء فيها للضَّرُورة، فكَذَا هَاهُنَا، والقَوْلُ بأنَّ هذا الحُكْمَ صَارَ مَنْسُوخاً بَعِيدٌ؛ لاتِّفَاقِ أكْثَرِ الأمَّةِ على أنَّ سُورة المَائِدَةِ من آخر ما نزل من القُرْآنِ، ولَيْسَ فيها مَنْسُوخٌ، واحْتَجَّ الآخَرون بقوله تعالى :﴿ وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ ﴾ [ الطلاق : ٢ ]، والكَافِرُ لا يكون عَدْلاً.
وأُجِيبَ بأنَّه لم لا يجُوز أنْ يكون المرادُ بالعَدْلِ مَنْ كَانَ عدْلاً في الاحْتَرازِ عَنِ الكذبِ، لا مَنْ كان عَدْلاً في الدِّين والاعتقاد؛ لإجْماعِنَا على قُبُول شَهَادِةِ أهْلِ الأهْوَاء والبِدَعِ، مع أنَّهم لَيْسُوا عُدُولاً في مَذَاهِبِهم عِنْدَنا لِكُفْرِهِم، [ ولكنهم ] لمَّا كانُوا عُدُولاً في الاحْتِرازِ عَنِ الكَذِبِ، قَبِلْنَا شَهَادَتَهُمْ، فكذا هَاهُنَا. سلَّمْنَا أنَّ الكَافِرَ لَيْسَ بعْدلٍ، إلاَّ أن قوله :﴿ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ ﴾ عامٌّ، وقوله :﴿ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض ﴾ خَاصٌّ؛ فإنَّه أوْجَبَ شهادَة العَدْلِ منَّا في الحَضَرِ، واكْتَفَى بِشَهَادَةِ مَنْ لا يَكُونُ منَّا في السَّفَرِ، فَهَذِه الآيَةُ خَاصَّةٌ، والآيةُ التي ذكرُوهَا عامَّةٌ، والخاصُّ مُقدَّم على العامِّ، لا سِيَّما إذا كان الخَاصُّ مُتَأخِّراً في النُزُولِ، والمائِدَةُ مُتَأخِرَّةٌ، فكان تَقْدِيمُ هذه الآيَةِ الخَاصَّةِ وَاجِبٌ بالاتِّفَاقِ.
وقوله :« تَحْبِسُونَهُمَا » أي : تستوقفونهما مِنْ بعد صلاةِ أهْلِ دينهمَا.
وقال عامَّةُ المُفَسِّرين : من بعدِ صلاة العَصْرِ، قالَهُ الشَّعْبِي، والنَّخْعِي، وسعيدُ بن جُبير، وقَتادَةُ وغَيْرِهم؛ لأنَّ جَمِيعَ أهْلِ الأدْيَان يُعَظِّمُونَ ذلك الوَقْت، ويَجْتَنِبُون فيه الحَلْفَ الكَاذِبَ.
وقال الحَسَنُ : مِنْ بعد صلاة الظُّهْر.
واحتَجَّ الجُمْهُور بما تقدَّم، وبأنَّه رُوِي أنَّهُ لمَّا نَزلَتِ هذه الآيَةِ، صلَّى رسُولُ الله ﷺ صلاة العَصْر، ودَعَا ب « عَدِيِّ » و « تَمِيمٍ » فأسْتَحلفَهُمَا عِنْد المِنْبَر.
وقال بعضهم : بَعْدَ أداءِ أيِّ صلاةٍ كانتْ؛ لأنَّ الصَّلاة تَنْهَى عن الفَحْشَاءِ والمُنْكَر.
قال بَعْضُ العلماء : الأيمانُ تُغَلَّظ في الدِّماءِ، والطَّلاقِ، والعِتَاقِ، والمال إذا بلغ مائَتَيْ دِرْهم بالزَّمَانِ والمكَان، فَيُحْلَفُ بعد صلاة العَصْرِ بِمَكَّةَ بين الرُّكْنِ والمقام، وفي المدينَة عند المِنْبَر، وفي بَيْتِ المقْدِسِ عند الصَّخْرَةِ، وفي سَائِر البُلْدَانِ في أشْرَف المَسَاجِد.
وقال أبو حنيفة : لا يَخْتَصُّ الحَلفُ بِزَمَان ولا مكان.
قوله :« فَيُقْسِمَانِ » في هذه الفاء وجهان :
أظهرهما : أنها عاطفةٌ هذه الجملة على جملة قوله :« تَحْبِسُونَهُمَا »، فتكون في محلِّ رفع، أو لا محلَّ لها حَسْبَمَا تقدَّم من الخلاف.
والثاني : أنها فاءُ الجزاءِ، أي : جوابُ شرطٍ مقدَّرٍ، وقال الفارسيُّ :« وإنْ شئت، لَمْ تَجْعَلِ الفاء؛ لعطف جملة، بل تجعلُه جزاءً؛ كقول ذي الرُّمَّة :[ الطويل ]
تقديرُه عندهم : إذا حَسَرَ بَدَا، وكذا في الآية : إذا حَبَسْتُمُوهُمَا أقْسَمَا ». [ وقال مكيٌّ نحوه؛ فإنه قال :« ويجوزُ أنْ تكونَ الفاءُ جواب جزاءٍ؛ لأن » تَحْبِسُونَهُمَا « معناه الأمْرُ بذلك، وهو جوابُ الأمْر الذي دَلَّ عليه الكلامُ؛ كأنه قيل : إذا حَبَسْتُمُوهُمَا أقْسَمَا » ] قال شهاب الدين : ولا حاجةَ داعيةً إلى شيء من تقدير شرطٍ محذوفٍ، وأيضاً : فإنه يُحْوجُ إلى حذفِ مبتدأ قبل قوله « فَيُقْسِمَان »، أي : فهما يُقْسِمَانِ، وأيضاً ف « إنْ تَحْبِسُوهُمَا » تقدَّم أنها صفةٌ، فكيف يَجْعَلُها بمعنى الأمر، والطَّلَبُ لا يقع وصفاً؟ وأمَّا البيتُ الذي أنشده أبو عليٍّ، فَخَرَّجَه النحويُّون على أنَّ « يَحْسِرُ الماءُ تَارَةً » جملةٌ خبرية، وهي وإن لم يكنْ فيها رابطٌ، فقد عُطِفَ عليها جملةٌ فيها رابطٌ بالفاء السَّببية، وفاءُ السببية جَعَلَتِ الجملتَيْنِ شيئاً واحداً.
٢٠٦٩- وإنْسَانُ عَيْنِي يَحْسِرُ المَاءُ تَارَةً فَيَبْدُو، وتَارَاتٍ يَجُمُّ فَيَغْرَقُ