وقوله تعالى :﴿ إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآثمين ﴾ هذه الجملةُ لا محلَّ لها؛ لأنها استئنافيةٌ، أخبروا عن أنفسهم بأنهم من الآثمين، إنْ كتموا الشهادة؛ ولذلك أتوا ب « إذَنِ » المُؤذِنَةِ بالجزاء والجواب، وقرأ الجمهور :« لَمِنَ الآثمينَ » من غير نقل، ولا إدغام، وقرأ ابن مُحَيصنٍ والأعمش :« لَمِلآّثمين » بإدغام نون « مِنْ » في لام التعريف، بَعْد أن نقل إليها حركة الهمزة في « آثمينَ »، فاعتدَّ بحركة النقل فأدغَمَ، وهي نظيرُ قراءةِ مَنْ قرأ :﴿ عَاداً لُّولَى ﴾ [ النجم : ٥٠ ] بالإدغام، على ما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.
فصل في معنى الآية
ومعنى الآية : إنكم إذا سَافَرْتُم في الأرْض، فأصَابَتْكُم مُصِيبَةُ الموت، فأوصَيْتم إلَيْهما، ودَفَعْتُم إليهمَا مالك، فاتَّهَمَهُمَا بعضُ الورثة، وادَّعَوْا عليهما خِيَانَة فما الحُكْمُ فيه؟
« أن تَحبِسُونَهُمَا » أي : تَسْتَوقِفُونَهُمَا بَعْدَ الصَّلاة.
قال السُّدي : بعد صلاةِ أهْلِ دينهمَا؛ لأنَّهُمَا لا يُبَالِيَان بِصلاةِ العَصْرِ، ولا صلاةِ الظُّهْرِ على ما تقدَّم، فيَحْلِفَان ﴿ بالله إِنِ ارتبتم ﴾ أي : شَكَكْتُم وَوقَعتْ لَكُم الرِّيبَةُ في قولِ الشَّاهدين وصدقهمَا، إذا كانا مِنْ غَيْرِ دينكُم، فإن كانا مُسْلِمَيْن فلا يَمِينَ عليهما ﴿ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً ﴾، أي : لا نَحْلِفُ باللَّه كَاذِبين على عِوضٍ نأخُذُه، أو حَقٍّ نَجْحَدُهُ ﴿ وَلَوْ كَانَ ذَا قربى ﴾، ولو كان المَشْهُودُ لَهُ ذَا قَرابَةٍ مِنَّا.
وقيل : لَوْ كان ذلك الشَّيْءُ حبوة في قُرْبى ﴿ وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله ﴾ وأضَافَ الشَّهادَةَ إلى اللَّهِ تعالى؛ لأنه أمَرَ بإقَامَتِها ونَهَى عن كِتْمَانها ﴿ إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآثمين ﴾، إن كَتَمْنَا الشَّهَادَة.
رُوِي لما نَزَلت هذه الآيَةُ، صلَّى رسولُ الله ﷺ صلاةَ العَصْرِ، ودعا تميماً وعِدياً، فاسْتَحْلَفَهُمَا عِنْدَ المِنْبَر باللَّه الذي لا إله إلاَّ هُو، أنَّهُمَا لم يَخْتَانَا شَيْئاً مما دُفع إليْهما، فَحَلَفا على ذَلِكَ، وخلَّى رسول الله ﷺ سَبِيلَهُمَا.