قوله تعالى :« فإنْ عُثِرَ » : مبنيٌّ للمفعول، والقائمُ مقامَ فاعله الجارُّ بعده، أي : فإن اطُّلِعَ على اسْتِحْقَاقِهِمَا الإثْم يقالُ : عَثَرَ الرَّجُلُ يَعْثُرُ عُثُوراً : إذا هَجَمَ على شيءٍ، لم يَطَّلِعْ عليه غَيْرُهُ، وأعْثَرْتُهُ على كذا أطلعتُه عليه؛ ومنه قوله تعالى :﴿ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ﴾ [ الكهف : ٢١ ]، قال أهلُ اللغة : وأصلُه من « عَثْرَةِ الرجْلِ » وهي الوقوعُ، وذلك أن العاثِرَ إنما يَعْثُرُ بِشَيْء كان لا يَرَاهُ، فإن عثر به، اطُّلَعَ عليه، ونظر ما هو، فقيل لكلِّ أمْرٍ كان خَفِيًّا، ثم اطُّلِعَ عليه :« عُثِرَ عَلَيْه »، وقال الليْثُ :« عَثَرَ يَعْثُرُ عُثُوراً هَجَمَ على أمرٍ لم يهجُمْ عليه غيرُه، وعَثَر يَعْثُرُ عثْرةً وقع على شيء » ففرَّقَ بين الفعلَيْنِ بمصدَرَيْهما، وفرَّق أبو البقاء بينهما بغير ذلك؛ فقال :« عَثَرَ مصْدرُه العُثُور، ومعناه اطَّلَعَ، فأمَّا » عَثَرَ « في مَشْيهِ، ومنْطِقِهِ، ورأيه، فالعِثَارُ »، والراغب جعَلَ المصدَرَيْنِ على حدٍّ سواء؛ فإنه قال :« عَثَر الرَّجل بالشيءِ يَعْثُرُ عُثُوراً وعِثَاراً : إذا سقطَ عليه، ويُتَجَوَّزُ به فيمَنْ يطَّلِعُ على أمرٍ من غيرِ طلبه، يقال :» عَثَرْتُ على كذا «، وقوله :﴿ وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ﴾ [ الكهف : ٢١ ]، أي : وَقَّفْنَاهُمْ عليهم من غَيْرِ أنْ طَلَبُوا ».
قوله تعالى :« فآخَرَانِ » فيه أربعةُ أوجه :
الأول : أن يرتفع على أنه خبر مبتدأ مضمرٍ، تقديره : فالشَّاهدانِ آخرانِ، والفاء جوابُ الشرط، دخلت على الجملة الاسمية، والجملةُ من قوله :« يَقُومَانِ » في محلِّ رفعٍ صفةً ل « آخَرَانِ ».
الثاني : أنه مرفوعٌ بفعلٍ مضمرٍ، تقديرُه : فَلْيَشْهَدْ آخَرَانِ، ذكره مكيٌّ وأبو البقاء، وقد تقدَّم أن الفعل لا يُحْذَفُ وحْدَهُ إلاَّ في مواضعَ ذكَرْتُها عند قوله :﴿ حِينَ الوصية اثنان ﴾ [ المائدة : ١٠٦ ].
الثالث : أن خبرٌ مقدَّم، و « الأوْلَيَانِ » مبتدأٌ مؤخَّرٌ، والتقديرُ : فالأوْليانِ بأمْرِ الميِّتِ آخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا، ذكر ذلك أبو عَلِيٍّ، قال :« ويكُونُ كقولك : تَمِيميٌّ أنَا ».
الرابع : أنه مبتدأٌ، وفي الخبر حينئذ احتمالاتٌ :
أحدها : قوله :﴿ مِنَ الذين استحق ﴾، وجاز الابتداءُ به؛ لتخصُّصِه بالوصْفِ، وهو الجملة من « يَقُومَانِ ».
والثاني : أنَّ الخبر « يَقُومَانِ » و ﴿ مِنَ الذين استحق ﴾ صفةُ المبتدأ، ولا يََضُرُّ الفصْلُ بالخبر بين الصفة وموصوفها، والمسوِّغُ أيضاً للابتداء به : اعتمادُه على فاءِ الجزاء، وقال أبو البقاء، لمَّا حَكَى رفعه بالابتداء :« وجازَ الابتداءُ هنا بالنَّكِرَة؛ لحصولِ الفائدةِ »، فإن عنى أنَّ المسوِّغَ مجرَّدُ الفائدةِ من غير اعتبار مسوِّغٍ من المُسَوِّغات التي ذكرتُها، فغيرُ مُسَلَّم.
الثالث : أنَّ الخبرَ قوله :« الأوْلَيَانِ » نقله أبو البقاء، وقوله « يَقُومَانِ » و ﴿ مِنَ الذين استحق ﴾ كلاهما في محلِّ رفعٍ صفةً ل « آخَرَانِ »، ويجوزُ أن يكون أحدُهما صفةً، والآخرُ حالاً، وجاءتِ الحالُ من النكرةِ؛ لتخصُّصِهَا بالوصفِ، وفي هذا الوجهِ ضَعْفٌ؛ من حيث إنه إذا اجتمع معرفةٌ ونكرةٌ، جَعَلْتَ المعرفةَ محدَّثاً عنها، والنكرةَ حديثاً، وعكسُ ذلك قليلٌ جدًّا أو ضرورةٌ؛ كقوله :[ الوافر ]


الصفحة التالية
Icon