﴿ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ﴾ [ آل عمران : ٩٧ ] عطفُ بيان؛ لقوله ﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ ﴾ [ آل عمران : ٩٧ ]، و « آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ » نكرةٌ؛ لكنها لَمَّا تخصَّصَتْ بالوصفِ، قَرُبَتْ من المعرفة، كما تقدَّم عنه في موضعه، وكذا « آخَرَانِ » قد وُصِفَ بصفَتيْنِ، فقُرْبُه من المعرفة أشدُّ من « آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ » ؛ من حيثُ وُصِفَتْ بصفةٍ واحدة.
الخامس : أنه بدلٌ من فاعلِ « يَقُومَانِ ».
السادس : أنه صفةٌ ل « آخَرَانِ »، أجازَ ذلك الأخفشُ، وقال أبو عَلِيٍّ :« وأجازَ أبو الحسنِ فيها شيئاً آخَرَ، وهو أن يكُون » الأوْلَيَانِ « صفةً ل » آخَرَانِ « ؛ لأنَّه لمَّا وُصِفَ، تخصَّصَ، فَمِنْ أجلِ وصفه وتخصيصه، وُصِفَ بوصف المعارف »، قال أبو حيان :« وهذا ضعيفٌ؛ لاستلزامِه هَدْم ما كَادُوا أن يُجْمعوا عليه؛ من أنَّ النكرة لا تُوصفُ بالمعرفةِ، ولا العَكْس »، قلتُ : لا شكَّ أن تَخَالُفَهُمَا في التعريفِ والتنْكيرِ ضعيفٌ، وقد ارتكَبُوا ذلك في مواضعَ، فمنها ما حكاه الخليلُ :« مَرَرْتُ بالرَّجُلِ خَيْرٍ مِنْكَ » في أحدِ الأوجه في هذه المسألةِ، ومنها ﴿ غَيْرِ المغضوب ﴾ [ الفاتحة : ٧ ] على القولِ بأنَّ « غَيْر » صفةُ ﴿ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ [ الفاتحة : ٧ ]، وقوله :[ الكامل ]

٢٠٧٣- وَلَقَدْ أمُرُّ على اللَّئِيم يَسُبُّنِي فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ لا يَعْنِينِي
وقوله تعالى :﴿ وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار ﴾ [ يس : ٧٣ ]، على أنَّ « يَسُبُّنِي » و « نَسْلَخُ » صفتان لما قبلهما؛ فإنَّ الجمل نكراتٌ، وهذه المُثُلُ التي أوردتها عكسُ ما نحن فيه، فإنها تُؤوَّلُ فيها المعرفةُ بالنكرة، وما نحن فيه جعلنا النكرة فيه كالمعرفةِ؛ إلاَّ أنَّ الجامعَ بينهما التخالفُ، ويجوز أن يكون ما نحْنُ فيه من هذه المُثُلِ؛ فاعتبار أنَّ « الأوْلَيَيْنِ » لمَّا لم يُقْصَدْ بهما شخصان معينان، قَرُبَا من النكرةِ، فوقعا صفةً لها مع تخصُّصِها هي؛ فصار في ذلك مسوِّغان : قُرْبُ النكرةِ من المعرفة بالتخصيصِ، وقُرْبُ المعرفةِ من النكرة بالإبهام؛ ويدلُّ لِما قلته ما قال أبو البقاء :« والخَامِسُ أن يكون صفة ل » آخَرَانِ « ؛ لأنه وإنْ كان نكرةً، فقد وُصِفَ، والأوْليانِ لم يَقْصِدْ بهما قَصْدَ اثنينِ بأعيانِهما ».
السابع : أنه مرفوعٌ على ما لم يُسَمَّ فاعله ب « اسْتُحِقَّ »، إلاَّ أنَّ كلَّ مَنْ أعربه كذا، قَدَّر قبله مضافاً محذوفاً، واختلفتْ تقديراتُ المُعْرِبينَ، فقال مكي :« تقديرُه : استُحِقَّ عليهمْ إثْمُ الأوْلَيَيْنِ »، وكذا أبو البقاء وقد سَبقَهما إلى هذا التقدير ابنُ جريرٍ الطَّبَرِيُّ، وقدَّره الزَمَخْشَرِيُّ فقال :« مِنَ الَّذِينَ استُحِقَّ علَيْهِمُ انتدَابُ الأوْلَيَيْنِ منْهُمْ للشَّهادَةِ لاطِّلاعِهِمْ عَلَى حقيقةِ الحَالِ »، ومِمَّن ذهب إلى ارتفاعِ « الأوْلَيَانِ » ب « اسْتُحِقَّ » أبو عليٍّ الفارسِيُّ، ثم منعه؛ قال :« لأنَّ المُسْتَحَقَّ إنَّمَا يكُونُ الوصيَّة أو شيئاً منها، وأمَّا الأوليَانِ بالمَيِّتِ، فلا يجوزُ أن يُسْتَحَقَّا، فيُسْنَدَ استُحِقَّ إليهما »، قلتُ : إنما منع أبو عليٍّ ذلك على ظاهرِ اللفظِ؛ فإنَّ الأوْلَيَيْنِ لَمْ يستحقَّهما أحدٌ كما ذَكَر، ولكن يجوز أن يُسْنَدَ « اسْتُحِقَّ » إليهما؛ بتأويلِ حذف المضافِ المتقدِّم، وهذا [ الذي ] منعه الفارسيُّ ظاهراً هو الذي حمل النَّاس على إضمار ذلك المُضافِ، وتقديرُ الزمخشريِّ ب « انْتِدَاب الأوْلَيَيْنِ » أحسنُ من تقدير غيره؛ فإنَّ المعنى يُسَاعِدُهُ، وأمَّا إضمارُ « الإثْم » فلا يَظْهر إلا بتأويل بعيدٍ.


الصفحة التالية
Icon