والخامس : أنه ضميرُ المالِ، ولم أرَهُمْ أجازوا أن يكون « عَلَيْهِم » هو القائمَ مقامَ الفاعلِ؛ نحو :﴿ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم ﴾ [ الفاتحة : ٧ ] كأنهم لم يَرَوْا فيه فائدةً.
وأمَّا قراءةُ حَفْص ف « الأوْلَيَانِ » مرفوعٌ ب « اسْتَحَقَّ » ومفعولُه محذوفٌ، قدَّره بعضهم « وصِيَّتَهُمَا »، وقدَّره الزمخشريُّ ب « أن يجرِّدُوهُمَا للقيامِ بالشَّهَادة » ؛ فإنه قال :« معناهُ من الورثةِ الذين استَحَقَّ عليْهِمُ الأوْلَيَانِ من بينهم بالشهادة : أن يجرِّدُوهُمَا للقيامِ بالشَّهَادة، ويُظْهِرُوا بها كذب الكاذبينَ »، وقال ابنُ عطيَّة :« الأوْلَيَانِ » رفعٌ ب « اسْتَحَقَّ »، وذلك أن يكون المعنى : مِنَ الَّذِينَ استحَقَّ عليْهِمْ مالَهُمْ وتركَتَهُمْ شَاهِدَا الزُّورِ، فَسُمِّيَا أوْلَيَيْنِ، أي : صَيَّرَهُمَا عَدَمُ الناس أوْلَيَيْنِ بالمَيِّت وتَرِكَتِهِ، فَخَانَا، وجَارَا فيها، أو يكونُ المعنى : من الذينَ حَقَّ عليهم أنْ يكون الأوليانِ منهم، فاستَحَقَّ بمعنى : حَقَّ، كاسْتَعْجَبَ وعَجِبَ، أو يكون استحقَّ بمعنى : سَعَى واستوجب، فالمعنى : من القوم الذين حَضَرَ أوْلَيَانِ مِنْهُمْ، فاستَحَقَّا عليهم، أي : استحقَّا لهُمْ وسعيا فيه، واستوجََبَاهُ بأيْمَانِهِمَا وقُرْبَانِهِمَا «، قال أبو حيان - بعد أنْ حكَى عن الزمخشريِّ، وأبي محمَّدٍ ما قدَّمْتُه عنهما - :» وقال بعضُهم : المفعولُ محذوفٌ، تقديرُه : الذين استحقَّ عليهمُ الأوليانِ وصيَّتَهُمَا «، قال شهاب الدين : وكذا هو محذوفٌ أيضاً في قولي الزمخشريِّ وابن عطيَّة، وقد بَيِّنْتُهما ما هما، فهو عند الزمخشريِّ قوله :» أنْ يُجَرِّدُوهما للقيامِ بالشَّهادة «، وعند ابن عطيَّة هو قوله :» مالَهُمْ وتَركَتَهُمْ «، فقوله :» وقال بعضهم : المفعولُ محذوفٌ « يُوهِمُ أنه لم يَدْرِ أنَّه محذوفٌ فيما تقدَّم أيضاً، وممن ذهبَ إلى أن » اسْتَحَقَّ « بمعنى » حَقَّ « المجرَّدِ - الواحديُّ فإنه قال :» واسْتَحَقَّ هنا بمعنى حَقَّ، أي : وَجَبَ، والمعنى : فآخَرَانِ مِنَ الذين وجب عليهمُ الإيصَاءُ بتوصيتِهِ بينهم، وهم وَرَثَتُه « وهذا التفسيرُ الذي ذكره الواحديُّ أوضحُ من المعنى الذي ذكره أبو محمَّد على هذا الوجه، وهو ظاهرٌ.
وأمَّا قراءةُ حمزة وأبي بَكْرٍ، فمرفوع »
استُحِقَّ « ضميرُ الإيصَاءِ، أو الوصيةِ، أو المالِ، أو الإثمِ، حَسْبما تقدَّم، وأمَّا » الأوَّلَيْنِ « فجمعُ » أوَّل « المقابل ل » آخِر «، وفيه أربعةُ أوجه :
أحدها : أنه مجرورٌ صفةً ل »
الَّذين «.
الثاني : أنه بدلٌ منه، وهو قليلٌ؛ لكونه مشتقًّا.
الثالث : أنه بدلٌ من الضميرِ في »
عَلَيهم «، وحسَّنَه هنا، وإن كان مشتقًّا عدمُ صلاحَيةِ ما قبله للوصف، نقل هذَيْن الوجهَيْن الأخيرَيْنِ مكيٌّ.
الرابع : أنه منصوبٌ على المَدْح، ذكره الزمخشريُّ، قال :»
ومعنى الأوَّلِيَّةِ التقدُّمُ على الأجَانب في الشَّهَادة؛ لكونهم أحَقَّ بها «، وإنما فَسَّر الأوَّلِيَّةَ بالتقدُّمِ على الأجَانِب؛ جَرْياً على ما مَرَّ في تفسيره : أو آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ أنَّهُمَا من الأجانب لا من الكُفَّارِ
وقال الواحديُّ :»
وتقديرُه من الأوَّلينَ الَّذينَ اسْتُحِقَّ عليْهِمُ الإيصَاءُ أو الإثْمُ، وإنما قيل لهم « الأوَّلِينَ » من حيث كانوا أوَّلِينَ في الذِّكْرِ؛ ألا ترى أنه قد تقدَّم :﴿ يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ﴾ وكذلك ﴿ اثنان ذَوَا عَدْلٍ ﴾ ذُكِرَا في اللفظ قبل قوله :﴿ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ﴾، وكان ابنُ عباسٍ يختارُ هذه القراءة، ويقول :« أرأيتَ إنْ كان الأوْليانِ صغيريْنِ، كيف يَقُومَانِ مقامهما » ؟ أراد : أنهما إذا كانا صغيريْنِ لم يقُومَا في اليمين مقامَ الحانِثَيْنِ، ونحا ابن عطية هذا المنحَى قال :« معناه : من القوْمِ الذين استُحِقَّ عليهم أمرُهُمْ، أي : غُلِبُوا عليه، ثم وصفَهم بأنهم أوَّلون، أي : في الذكْرِ في هذه الآية ».


الصفحة التالية
Icon