وأمَّا قراءةُ الحَسَن فالأوَّلانِ مرفُوعَانِ ب « استَحَقَّ » فإنه يقرؤهُ مبنيًّا للفاعل، قال الزمخشريُّ :« ويَحْتَجُّ به مَنْ يَرَى ردَّ اليمينِ على المُدَّعِي »، ولم يبيِّن مَنْ هما الأوَّلاَنِ، والمرادُ بهما الاثْنَانِ المتقدِّمَانِ في الذكْرِ؛ وهذه القراءةًُ كقراءةِ حَفْصٍ، فيُقَدَّرُ فيها ما ذُكِرَ، ثم مما يليقُ من تقديرِ المفْعُولِ.
وأما قراءة ابن سيرينَ، فانتصابُها على المَدْحِ، ولا يجوزُ فيها الجَرُّ؛ لأنه : إمَّا على البدل، وإمَّا على الوصْف بجَمْعٍ، والأوْلَيَيْنِ في قراءته مثنًّى، فتعذر فيها ذلك، وأمَّا قراءة « الأوْلَيْنَ » كالأعلَيْنَ، فحكاها أبو البقاء قراءةً شاذَّة لم يَعْزُها، قال :« ويُقْرَأ » الأوْلَيْنَ « جمع الأوْلَى، وإعرابه كإعراب الأوَّلينَ » يعني في قراءة حمزة، وقد تقدَّم أن فيها أربعةُ أوجه، وهي جارية هنا.
قوله :« فَيُقْسِمَانِ » نسقٌ على « يَقُومَانِ » والسببيَّةُ ظاهرٌة، و « لشَهَادَتُنَا أحَقُّ » : هذه الجملة جوابُ القسمِ في قوله :« فَيُقْسِمَانِ ».

فصل في معنى الآية


ومعنى الآية : فإن حصل العُثُور، والوقوف على أنَّهُمَا أتيا بِخِيَانة، استَحَقَّا الإثم بسبَبِ اليَمِينَ الكَاذِبَة، أو خِيَانَة في المَالِ، قام في اليَمِين مقَامَهُما رَجُلانِ من قرَابَة الميت، فَيَحْلِفَان باللَّهِ لقد ظَهَرْنا على خَبرِ الذِّمِّيَّين، وكذبهما وتَبْدِيلهما، وما اعْتَدَيَنْا في ذلك وما كَذبْنَا، وهو المُراد بقوله :﴿ فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم ﴾، والمُرَادُ به موالِي الميِّتِ، قال ابنُ الخطيب : وقد أكثر النَّاسُ في أنَّهُ لِمَ وصف موالِي الميِّتِ بهذا الوَصْفِ؟ والأصَحُّ عندي فيه وَجْهٌ : وهو أنَّهُمْ إنَّما وُصِفُوا بذلك؛ لأنَّهُ لمَّا أخَذَ منهم مَالَهُمْ، فَقَدْ استَحَقَّ عليهم مَالَهُمْ، فإن أخَذَ مال غيره، فقد حاولَ أن يكون تَعَلُّقُهُ بذلك المَالِ مُسْتَعْلِياً على تَعَلُّق مالكه به، فصحَّ أن يوصف المَالِكُ بأنَّه قد استَحَقَّ عليه ذلك المال، وإنما وَصَفهُمَا بأنَّهُما أولَيَان لِوَجْهَيْن :
الأول : معنى الأوليان : الأقْرَبان إلى الميِّت.
الثاني : يَجُوزُ أن يكُون المَعْنَى الأوليان باليَمينِ؛ لأن الوصِيَّيْن قد ادّعَيَا أنَّ الميِّت قد باعَ الإنَاء الفِضَّة، فانْتَقَلَتِ اليَمِينُ إلى موالي الميِّت؛ لأنَّ الوَصِيَّيْن قد ادّعَيَا أنَّ مُورثَهُمَا باعَ الإنَاء، وهما أنْكَرَا ذلك، فكان اليَمِينُ حقًّا لهما؛ لأنَّ الوَصِيَّ إن أخَذَ شيئاً من مال الميِّت، وقال : إنه أوْصَى لِي به حَلَف لِلْوَارِثِ إذا أنْكَرَ ذلك، وكذا لو ادّعَى رجُلٌ سِلْعَةً في يدِ رجلٍ فاعْتَرَفَ، ثمَّ ادَّعى أنَّهُ اشْتَراها من المدَّعِي، حلف المُدَّعِي أنَّه لم يَبِعْها منه، وهذا كما لو أنَّ إنْسَاناً أقَرَّ لآخر بِدَيْنٍ، ثم ادّعى أنه قَضَاهُ، حُكِمَ بِرَدّ اليمينِ إلى الذي ادّعى الدَّيْن أوَّلاً؛ لأنَّه صارَ مُدَّعىً عليه أنه قد اسْتَوْفَاه.


الصفحة التالية
Icon