قرأ الأخوانِ هنا وفي هودٍ [ الآية ٧ ] وفي الصَّف [ الآية ٦ ] « إلاَّ سَاحِرٌ » اسم فاعل، والباقون :« إلاَّ سِحْرٌ » مصدراً في الجميع، والرسمُ يحتمل القراءتَيْنِ، فأمَّا قراءةُ الجماعةِ، فتحتملُ أن تكون الإشارةُ إلى ما جاءَ به من البيِّنات، أي : ما هذا الذي جاء به من الآيات الخوارِق إلا سِحْرٌ، ويُحْتمل أن تكون الإشارةُ إلى عيسى - ﷺ - جَعَلُوه نفس السحْر مبالغةً؛ نحو :« رَجُلٌ عَدْلٌ »، أو على حذفِ مضافٍ، أي : إلاَّ ذُو سِحْرٍ، وخَصَّ مكي - رحمه الله تعالى - هذا الوجه بكون المرادِ بالمشار إليه محمداً ﷺ فقال :« ويجوزُ أن تكونَ إشارةً إلى النبيِّ محمد ﷺ على تقدير حَذْفِ مضافٍ، أي : إنْ هذا إلاَّ ذُو سِحْرٍ ». قال شهاب الدين : وهذا غَيْرُ جائزٍ، والمرادُ بالمشار إليه عيسى عليه السلام، وكيف يكونُ المرادُ النبيَّ ﷺ وهو لَمْ يكن في زَمَنِ عيسى - ﷺ - والحواريِّين؛ حتى يشيروا إليه إلا بتأويلٍ بعيدٍ؟ وأمَّا قراءةُ الأخوَيْن، فتحتمل أن يكون « سَاحِرٌ » اسم فاعلٍ، والمشارُ إليه « عيسى »، ويُحتمل أن يكونَ المرادُ به المصدرَ؛ كقولهم : عَائِذاً بِكَ وعَائِذاً بالله مِنْ شَرِّهَا، والمشارُ إليه ما جاء به عيسَى من البيِّنات والإنجيلِ، ذكر ذلك مَكي، وتبعَهُ أبو البقاء، إلا أنَّ الواحديَّ مَنَعَ مِنْ ذلك؛ فقال - بعد أنْ حَكَى القراءتَيْنِ - : وكلاهُمَا حَسَنٌ؛ لاستواءِ كلِّ واحدٍ منهما في أنَّ ذِكْرَهُ قد تقدَّم، غير أنَّ الاختيار « سِحْر » ؛ لجوازِ وقوعه على الحَدَثِ والشَّخْص، أمَّا وقُوعه على الحدث، فسهلٌ كثير، ووقُوعه على الشخْصِ يريدُ ذُو سحْرٍ؛ كقوله تعالى :﴿ ولكن البر مَنْ آمَنَ ﴾ [ البقرة : ١٧٧ ]، وقالوا :« إنما أنت سيرٌ » و « ما أنت إلا سيرٌ »، و [ البسيط ]

٢٠٨٥-................................. فَإنَّما هِيَ إقْبَالٌ وإدْبَارُ
قلتُ : وهذا يرجِّحُ ما قدَّمْتُه من أنه أطْلَقَ المصْدر على الشخص؛ مبالغةً؛ نحو :« رَجُلٌ عَدْلٌ »، ثم قال :« ولا يجوزُ أنْ يُرادَ بساحرٍ السِّحْرُ، وقد جاء فاعل يراد به المصدرُ في حروفٍ ليست بالكثير، نحو :» عَائِذاً بالله من شَرِّهِ «، أي : عِيَاذاً، ونحو » العافية « ولم تَصِرْ هذه الحروفُ من الكثرة بحيثُ يسوغُ القياس عليها ».
وإن قيل : إنَّهُ - تعالى - عدَّدَ هُنَا نِعمَ اللَّه تعالى على عيسى - عليه السلام -، وقولُ الكُفَّار في حقه ﴿ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾، ليس من النِّعَمِ، فكيف ذكره هنا؟.
فالجوابُ إنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ، فَطَعْن الكُفَّار في عيسى - عليه السلام - بهذ الكلام، يَدُلُّ على أنّ نِعْمَةِ الله كانت في حقِّه عَظِيمَة، فَحَسُنَ ذِكْرُه عند تعديد النِّعم من هذا الوجه.


الصفحة التالية
Icon