« أن رسول الله ﷺ عادَ أبا طالبٍ في مرض، فقال : يَا ابْنَ أخِي، ادعُ رَبَّكَ الذي تَعْبُدُهُ فَيُعَافيني، فقال : اللهُمَّ اشْفِ عَمِّي، فقام أبو طالبٍ، كأنما نَشِطَ من عقالٍ، فقال : يا ابْنَ أخِي، إنَّ ربَّكَ الذي تَعْبُدُ ليُطِيعُكَ، قال : وأنْتَ يا عَمَّاه، لو أطَعْتَهُ، أو : لَئِنْ أطَعْتَ اللَّهَ، لَيُطِيعَنَّكَ »، أي : لَيجيبَنَّكَ إلى مقْصُودك، قال شهاب الدين : والذي حَسَّنَ ذلك المقابلةُ منه ﷺ للفْظِ عَمِّهِ، كقوله :﴿ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله ﴾ [ آل عمران : ٥٤ ] وقيل : التقدير : هَلْ يُطِيعُ؟ فالسينُ زائدة؛ كقولهم : اسْتَجَابَ وأجَابَ، قال :[ الطويل ]
٢٠٨٦- وَدَاعٍ دَعَا يا مَنْ يُجِيبُ إلَى النَّدَى | فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ |
٢٠٨٧- عَلَى مَا قَامَ يَشْتِمُنِي لَئِيمٌ | كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغ فِي رَمَادِ |
قال ابنُ الخطيبِ : وأمَّا القراءَةُ الثَّانِيَةُ ففيها إشْكَالٌ، وهو أنَّهُ تعالى حَكَى عنهُم أنَّهم قالُوا :« آمنَّا واشهدْ بأنَّا مُسْلمُون »، وبعد الإيمانِ كَيْفَ يَجُوزُ أن يقال : إنهم بقوا شاكِّين في اقتدار اللَّهِ على ذلك؟.
والجوابُ عنه من وُجُوهٍ :
الأول : أنَّهُ - تبارك وتعالى - ما وَصَفَهُم بالإيمان والإسلام بل حَكَى عنهم ادِّعَاءَهم لَهُمَا، ثمَّ تَبعَ ذلك بقوله - حِكَايةً عَنْهُم - ﴿ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء ﴾ ؟ فدلَّ ذلك على أنَّهُم كَانُوا شاكِّين مُتَوقِّفِين، فإنَّ هذا اللَّفْظَ لا يَصْدُر مِمَّنْ كان كَامِلاً في الإيمان.
وقالوا :﴿ وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا ﴾ [ المائدة : ١١٣ ]، وهذا يَدُلُّ على مَرَضٍ في القَلْب، وكذا قَوْلُ عيسى - ﷺ - لهم :﴿ اتقوا الله إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾، يَدُلُّ على أنَّهُم ما كانوا كامِلِين في الإيمان.
الثاني : أنَّهُم كانوا مُؤمِنين إلاَّ أنَّهُم طَلَبُوا هذه الآية لِيحْصُلَ لهم مَزِيد الطمأنينة، فلهذا السَّبِب قالوا :« وتَطْمئنَّ قُلُوبنا ».
الثالث : أنَّ مُرادَهُمُ استفهام أن ذلك هل هو كافٍ في الحِكْمةِ أم لا؟ وذلك لأنَّ أفْعَال اللَّهِ تعالى لمَّا كَانَتْ مَوْقُوفَةً على رِعايَةِ وجُوهِ الحكمة، فَفِي الموْضِع الَّذِي لا يَحْصُل فيه شَيْءٌ من وُجُوهِ الحِكْمَةِ يكونُ الفِعْلُ مُمْتَنِعاً، فإنَّ المُنَافيَ من جِهَةِ الحكمة كالمنافي جِهَة القُدْرَةِ، وهذا الجوابُ يَتَمَشَّى على قَوْلِ المُعْتَزِلَة.
وأمَّا على قَوْلِنا فهو مَحْمُولٌ على أنَّه تَبارك وتعالى هل قَضَى بذلك؟ وهل عَلِمَ وُقُوعه؟ فإن لَمْ يَقْضِ به، ولَمْ يعلم وُقُوعه كان ذلك محالاً غيْرَ مَقْدُورٍ؛ لأن خلافَ المَعْلُوم غَيْرُ مَقْدُورٍ.