الرابع : قال السديُّ : إن السِّين زَائِدةٌ، على أنَّ اسْتَطَاع بمعنى أطاعَ كما تقدَّم.
الخامس : لعل المُرادَ بالرَّبِّ جِبْرِيل؛ لأنَّهُ كان يُرَبِّيهِ ويَخُصُّهُ بأنْوَاع الإعَانَةِ، لقوله - تبارك وتعالى - في أوَّلِ الآية ﴿ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس ﴾ [ المائدة : ١١٠ ]، والمعنى : أنَّك تَدَّعِي أنه يُرَبِّيك، ويَخُصُّكَ بأنْوَاع الكَرَامَةِ، فهل يقدر على إنْزَالِ مَائِدَةٍ من السَّمَاءِ عَلَيْك؟.
السادس : ليْسَ المَقْصُود من هذا السُّؤال كونَهُم شاكِّين فيه، بل المَقْصُود تَقْرِير أن ذلك في غاية الظُّهُور، كمن يَأخُذُ بِيَدِ ضعيفٍ، ويقول : هل يَقْدِر السُّلْطَان على إشْبَاع هذا، وبكون غَرَضُه أنَّ ذلكَ أمْرق واضِحٌ لا يجُوزُ للعَاقِل أن يَشُكَّ فيه.
قوله « أن يُنَزِّلَ » في قراءةِ الجماعة في محلِّ نصب مفعولاً به، أي : الإنْزالَ، وقال أبو البقاء - رحمه الله تعالى - : والتقدير : على أن يُنَزِّلَ، أو في أن يُنَزِّلَ، ويجوزُ ألاَّ يحتاج إلى حرف جرٍّ على أن يكون « يَسْتَطِيع » بمعنى « يُطِيقُ » [ قلت : إنما احتاج إلى تقدير حَرْفي الجَرِّ في الأول؛ لأنه حمل الاستطاعة على الإجابة، وأمَّا قوله أخيراً : إنَّ « يَسْتَطيعُ » بمعنى « يُطِيقُ » ] فإنما يَظْهرُ كلَّ الظهورِ على رأي الزمخشريِّ من كونهم ليسوا بمؤمنين، وأمَّا على قراءةِ الكسائيِّ، فقالوا : هي في محلِّ نصْبٍ على المفعولية بالسؤالِ المقدَّر، أي : هلْ تستطيعُ أنت أن تسألَ ربَّكَ الإنْزالَ، فيكون المصدرُ المقدَّرُ مضافاً لمفعوله الأوَّل، وهو « رَبُّكَ »، فلمَّا حُذِفَ المصدرُ، انتصب، وفيه نظرٌ؛ من أنهم أعمَلُوا المصدر مضمراً، وهو لا يجوزُ عند البصريِّين، يُؤوِّلُونَ ما وردَ ظاهرُه ذلك، ويجوز أن يكون « أنْ يُنَزِّلَ » بدلاً من « رَبُّكَ » بدل اشتمالٍ، والتقديرُ : هل تستطيعُ، أي : هل تُطِيقُ إنزال الله تعالى مائدةً بسببِ دعائِكَ؟ وهو وجهٌ حسن.
و « مَائِدَةً » مفعول « يُنَزِّلُ »، والمائدة : الخِوانُ عليه طعامٌ، فإن لم يكن عليه طعامٌ فليست بمائدةٍ، هذا هو المشهور، إلا أن الراغب قال :« والمائدةُ : الطبقُ الذي عليه طعامٌ، ويقال لكلِّ واحدٍ منها مائدةٌ »، وهو مخالفٌ لما عليه المعظمُ، وهذه المسألة لها نظائرُ في اللغة، لا يقال للخوانِ مائدةٌ إلا وعليه طعامٌ، وإلا فهو خوانٌ، ولا يقال كأسٌ إلا وفيها خَمْرٌ، وإلا فهي قدحٌ، ولا يقال ذنُوبٌ وسَجْلٌ إلا وفيه ماء، وإلا فهو دَلْو، ولا يقال جرابٌ إلا وهو مدبوعٌ وإلا فهو إهابٌ، ولا قَلَمٌ إلاَّ وهو مَبْريٌّ وإلا فهو أنْبُوبٌ، واختلف اللغويون في اشتقاقها، فقال الزجَّاج - رحمه الله تعالى - :« هي من مَادَ يَمِيدُ إذا تحرَّك، ومنه قوله :﴿ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ ﴾ [ الأنبياء : ٣١ ] ومنه : مَيْدُ البَحْرِ »، وهو ما يُصِيبُ راكبَه، فكأنها تميدُ بما عليها من الطعام.