اختلَفُوا في هذا القَوْلِ، هَلْ وقع وانْقَضَى، أو سيقع يوم القيامة؟ على قولين :
الأول : قال بعضُهم : لمَّا رفعهُ إليه، قال له ذلك، وعلى هذا ف « إذْ » و « قَالَ » على موضوعهما منَ المُضِيِّ، وهو الظاهر، وقال بعضُهم : سيقولُه له يَوْمَ القيامة؛ لقوله - تبارك وتعالى قبله ﴿ يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل ﴾ [ المائدة : ١٠٩ ] [ الآية ]، وقوله بعد هذا :﴿ يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ ﴾ [ المائدة : ١١٩ ] وعلى هذا ف « إذْ »، و « قَالَ » بمعنى « يَقُولُ »، وكونُها بمعنى « إذَا » أهونُ من قول أبي عُبَيْدٍ : إنها زائدةٌ؛ لأنَّ زيادةَ الأسماء ليْسَتْ بالسهلة.
قوله :« أأنْتَ قُلْتَ » دخلت الهمزةُ على المبتدأ؛ لفائدةٍ ذكرها أهل البيان، وهو : أن الفعل إذا عُلِمَ وجودُهُ، وشُكَّ في نسبته إلى شخص، أولِيَ الاسْمُ المشكوكُ في نسبة الفعْلِ إليه للهمْزة، فيقال :« أأنْتَ ضَرْبٌ زَيْداً »، فَضَرْبُ زَيْدٍ قد صدر في الوجود، وإنما شُكَّ في نسبته إلى المخاطَبِ، وإنْ شُكَّ في أصل وقوعِ الفعلِ، أولِيَ الفعلُ للهمزة، فيقال :« أضَرَبْتَ زَيْداً »، لم تَقْطع بوقوعِ الضرب، بل شَكَكْتَ فيه، والحاصلُ : أنَّ الهمزةَ يليها المشكوكُ فيه، فالاستفهامُ في الآية الكريمة يُراد به التقريعُ والتوبيخ لغير عيسى - عليه السلام - وهم المتَّخِذُون له ولأمِّه إلهَيْنِ، دخل على المبتدأ لهذا المعنى الذي ذكرناه؛ لأن الاتخاذَ قد وقع ولا بُدَّ، واللام في « للنَّاس » للتبليغِ فقط، و « اتَّخِذُوني » يجوز أن تكون بمعنى « صَيَّرَ »، فتتعدَّى لاثنين، ثانيهما « إلَهَيْنِ »، وأن تكونَ المتعدية لواحدٍ ف « إلَهَيْنِ » حالٌ، و ﴿ مِن دُونِ الله ﴾ فيه وجهان :
أظهرهما : أنه متعلقٌ بالاتخاذ، وأجاز أبو البقاء - رحمه الله تعالى - وبه بدأ - أن يكون متعلِّقاً بمحذوفٍ؛ على أنه صفةٌ ل « إلَهَيْنِ ».
فإن قيل : كَيْفَ يَلِيقُ الاسْتِفْهَامُ بعلاَّمِ الغُيُوب؛ وأيضاً النَّصَارَى لا يَقُولُون بإلهِيَّة عيسى [ - ﷺ - ومريم ].
فالجوابُ عن الأول : أنَّه على سبيلِ الإنْكَارِ، وقَصْدُ هذا السُّؤال تَعْرِيفُهُ أنَّ قَوْمَهُ غيرُوا بعده، وادَّعَوْا عليه مَا لَمْ يَقُلْهُ.
والجوابُ عن الثَّانِي : أنَّ النَّصَارى يَعْتَقِدُون أنَّ المُعْجِزَات الَّتِي ظَهَرَتْ على يَدِ عيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - ومَرْيَم - عليها السَّلام - لم يَخْلُقْهَا الله تعالى، بل عيسى ابن مريم - عليهما الصَّلاة والسَّلام - فاللَّهُ ليس خَالِقُهمَا، فصحَّ أنهُم أثْبَتُوا في حَقِّ بَعْضِ الأشْيَاء كون عيسى - عليه السلام - ومريم إلهيْنِ من دُون الله، [ مع أنَّ اللَّه لَيْس إلهاً لَهُ ]، فصحَّ بهذا التَّأويلِ هذه الحِكايَةُ.
وقال القُرْطُبِي - رحمه الله - : فإن قيل : النَّصَارَى لم يَتَّخِذُوا مَرْيَمَ إلهاً، فكَيْفَ قال ذَلِكَ فيهم؟.


الصفحة التالية
Icon