فقيل : لمَّا كان من قَولِهِمْ أنَّهَا لَمْ تَلِدْ بَشَراً، وإنَّما وَلَدَتْ إلهاً، لَزِمَهُم أنْ يقُولُوا : إنَّها لأجْل البَعْضِيَّة بمثابة من ولدَتْه، فصارُوا حين لزمهُم ذلك بمثابَةِ القائِلين لهُ.
فإن قيل : إنَّهُ - تبارك وتعالى - إن كان عَالِماً بعيسى - عليه الصَّلاة والسَّلامُ - لم يَقُلْ ذلك، فلم خاطَبَهُ به؟ فإن قُلْتُم : الغَرَضُ مِنْهُ تَوْبِيخُ النَّصَارى وتَقْرِيعُهُم، فنقُولُ : إنَّ أحَداً من النَّصَارى لَمْ يَذْهَبْ إلى القَوْلِ بإلهيَّةِ عيسى ومريم مع القول بنَفْي إلهيَّةِ الله تعالى، فكيْفَ يجُوزُ أن يُنْسَبَ هذا القوْلُ إليْهِمْ، مع أنَّ أحَداً منهم لَمْ يَقُلْ به؟.
فالجوابُ : أنَّ الله تعالى أرَادَ أنَّ عيسى يُقِرُّ على نَفْسِهِ بالعُبُودِيَّةِ فَيَسْمع قَوْمُهُ، ويَظْهَرُ كذبُهُمْ عليه أنَّه أمَرَهُم بذلك.
قوله :« سُبْحَانَك » أي : تنزيهاً لك، وتقدَّم الكلام عليه في البقرة [ الآية : ٣٢ ]، ومتعلَّقُه محذوفٌ، فقدَّره الزمخشريُّ :« سُبْحانَكَ مِنْ أن يكُونَ لك شَرِيكٌ »، وقدَّره ابن عطية :« عَنْ أنْ يُقالَ هذا، ويُنْطَقَ به » ورجَّحَهُ أبو حيان - رضي الله عنه - لقوله بَعْدُ :﴿ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ ﴾. قوله :« أنْ أقُولَ » في محلِّ رفع؛ لأنه اسمُ « يكُونُ »، والخبرُ في الجارِّ قبله، أي : ما يَنْبَغِي لي قولُ كذا، و « مَا » يجوزُ أن تكون موصولةً أو نكرةً موصوفةً، والجملةُ بعدها صلةٌ؛ فلا محلَّ لها، أو صفةٌ، فمحلُّها النصبُ، فإنَّ « مَا » منصوبةٌ ب « أقُولَ » نصب المفعول به؛ لأنها متضمِّنةٌ لجملة، فهو نظيرُ « قُلْتُ كلاماً »، وعلى هذا فلا يحتاج أن يؤوَّل « أقُولَ » بمعنى « أدَّعِي » أو « أذْكُرَ »، كما فعله أبو البقاء رحمه الله وفي « لَيْسَ » ضميرٌ يعودُ على ما هو اسمها، وفي خبرها وجهان :
أحدهما : أنه « لِي »، أي : ما لَيْسَ مستقرّاً لي وثابتاً، وأمَّا « بِحَقٍّ » على هذا، ففيه ثلاثةُ أوجه، ذكر أبو البقاء منها وجهين :
أحدهما : أنه حالٌ من الضمير في « لي ».
قال : والثاني : أن يكون مفعولاً به، تقديره : ما ليس يَثْبُتُ لي بسببِ حقٍّ، والباءُ متعلِّقةٌ بالفعلِ المحذُوف، لا بنفسِ الجارِّ؛ لأنَّ المعانِيَ لا تعملُ في المفعول به. قال شهاب الدين : وهذا ليْسَ بجيِّدٍ؛ لأنه قدَّر متعلَّقَ [ الخبر كوناً مقيَّداً، ثم حذفه، وأبقى معموله.
الوجه الثالث : أنَّ قوله « بحَقٍّ » متعلقٌ ] بقوله :« عَلِمْتَهُ »، ويكون الوقْفُ على هذا على قوله « لِي »، والمعنى : فققد عَلِمْتَهُ بِحَقٍّ، [ وقد رُدَّ ] هذا بأنَّ الأصْل عدمِ التقديم والتأخير، وهذا لا ينبغي أن يُكتفى به في ردِّ هذا، بل الذي منه من ذلك : أنَّ معمول الشرط أو جوابه لا يتقدَّم على أداة الشرط، لا سيَّما والمَرْوِيُّ عن الأئمةِ القُرَّاءِ الوقفُ على « بِحَقٍّ »، ويَبْتَدئُونَ ب ﴿ إِن كُنتُ قُلْتُهُ ﴾، وهذا مَرْوِيٌّ عن رسول الله ﷺ فوجَبَ اتِّباعه.