السؤال الثالث لم ذكر السماء بصيغة الجَمْع، والأرض بصيغة الواحدِ، مع أنِّ الأرضِينَ أيضاً كثيرةٌ لقوله :﴿ وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ ﴾ [ الطلاق : ١٢ ] ؟. فالجوابُ : أنَّ السَّماءَ جَارِيَةٌ مجرى الفاعل، والأرض مجرى القابل، فلو كانت السَّمَاءُ واحدةً لتَشَابَهَ الأمرٌ، وذلك يخلُّ بمصَالِح هذا العَالَمِ، فإذا كانت كثيرةٌ اخْتَلَفَتِ الاتِّصَالاَتُ الكَوْكَبِيَّةُ، فحَصَلَ بسببها الفُصُولُ الأرَبعة، وسائر الأحوال المختلفة، وحَصَلَ بسبب تلك الاختلافات مصالح [ هذا ] العالم. أمَّا الأرض فهي قابلة للأثَرِ، والقَابِلُ الوَاحدُ كافٍ في القبول.
قوله :﴿ وَجَعَلَ الظلمات والنور ﴾.
« جَعَلَ » هنا تتعدَّى لمعفول واحد؛ لأنها بمعنى « خَلَقَ »، هكذا عِبَارةُ النحويين، ظاهرها أنهما مُتَرَادِفَانِ، إلاَّ أنَّ الزَّمخْشَرِيَّ فَرَّقَ بينهما فقال :« والفَرقُ بين الخَلْقِ والجَعْلِ أنَّ الخَلْقَ فيه معنى التقدير، وفي الجَعْلض معنى التَّصْييرِ كإنشاء شيء من شيء أو تَصْييرِ شيء شيئاً، أو نَقْلهِ فيه معنى التقدير، وفي الجَعْلُ التَّصْييرِ كإنشاء شيء أو تَصْييرِ شيء شيئاً، أو نَقْلِهِ من مكان إلى مكان، ومن ذلك ﴿ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾ [ الأعراف : ١٨٩ ]، ﴿ وَجَعَلَ الظلمات والنور ﴾ ؛ لأنَّ الظُلمَاتِ من الأجْرَامَ المُتَكَاثِفَةِ، والنُّور مِنَ النَّارِ ».
وقال الطَّبرِيُّ :« جَعَلَ » هنا هي التي تتصَرَّفُ في طَرَفِ الكلام، كما تقول :« جَعَلْتُ أفعل كذا ».
فكأنه قال :« جَعَلَ إظلامها وإنارتها »، وهذا لا يُشبه كلام أهل اللسان، ولكونها عند الزمخشري لَيْست بمعنى « خَلَقَ » فسَّرها هُنا بمعنى « أحدث » و « أنشأ ».
وكذا الراغب جعلها بمعنى « أوْجَدَ ».
ثم إنَّ أبَا حيَّان اعْتَرَضَ عليه هنا لمَّا اسْتَطْرَدَ، وذكر أنها تكون بمعنى صَيَّر ومثل بقوله :﴿ وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً ﴾ [ الزخرف : ١٩ ]. فقال وما ذكر من أن جعل بمعنى صَيَّر في قوله ﴿ وَجَعَلُواْ الملائكة ﴾ [ الزخرف : ١٩ ] لا يصحُّ؛ لأنهم لم يُصَيِّروهم إناثاً وإنما بعضُ النحويين أنها هنا بمعنى « سمَّى ».
قال شهابُ الدين : ليس المُرَادُ بالتصيير بالفعل، بل المُراد التصيير بالقول، وقد نصَّ الزمخشري على ذلك، على ما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى، وقد ظهر الفرقُ بين تخصيص السَّمواتِ والأرض بالخَلْقِ، والظُّلُمَاتِ والنور بالجَعْل بما ذكره الزمخشري.

فصل


قال أبو العباس المقري : ورد لفظ الجَعْل في القرآن على خمسة أوجه :
الأول : بمعنى « خلق » قال تعالى :﴿ وَجَعَلُواْ الملائكة ﴾، وقوله ﴿ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا ﴾ [ فصلت : ١٠ ]، وقوله :﴿ جَعَلَ الليل والنهار ﴾ [ الفرقان : ٦٢ ].
والثاني : بمعنى « بعث » قال تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرا ﴾ [ الفرقان : ٦٢ ].
والثالث : بمعنى « قدره » قال تعالى ﴿ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً ﴾ [ الزمر : ٨ ] وقوله تعالى :﴿ وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاَّ ﴾ [ الزخرف : ١٩ ] وقوله تعالى :﴿ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ﴾


الصفحة التالية
Icon