وأجاز أبو البَقَاء أن يكونا وَاقِعَيْنِ المفعول به، أي : مُسَرَّكم ومجهوركم، واسْتَدَلَّ بقوله تعالى :﴿ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ [ البقرة : ٧٧ ] ولا دَلَيلَ فيه، لأنه يجوز « ما » مصدرية وهو الألْيَقُ لمُنَاسَبَةِ المصدرين قبلها، وأن تكون بمعنى « الذي ».

فصل في معنى الآية


« وهو الله في السموات والأرض » كقوله :﴿ وَهُوَ الذي فِي السمآء إله وَفِي الأرض إله ﴾ [ الزخرف : ٨٤ ].
وقيل : هو المعبود في السَّمواتِ والأرض.
وقال محمد بن جرير : معنيان : وهو اللَّهُ يعلمُ سرّكم وجهركم في السموات والأرض، يعلمُ ما تَكْسِبُونَ من الخيرِ والشَّر.

فصل في شبكة إنكار الفوقية


استدلَّ القائلون بأنَّ الله في السموات بهذه الآية.
قالوا : ولا [ يلزمنا ] أن يقال : فيلزم أن يكون في الأرض لقوله :« في الأرض » وذلك يقتضي حُصُولهُ في مكانين مَعاً، وهو مُحَالٌ؛ لأنَّا نقول : أجمعنا على أنه لَيْسَ مَوْجُوداً في الأرْضِ، ولا يَلْزمُ من ترك العَمَل بأحد الظَّاهرين ترك العمل بالظَّاهر الآخر من غير دليلٍ، فوجبَ أن يبقى قوله :﴿ وَهُوَ الله فِي السماوات ﴾ على ظاهره ولأن من القراء من وقف عند قوله :﴿ وَهُوَ الله فِي السماوات ﴾، ثم يبتدئ فيقول :« وفي السموات والأرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وجَهْرَكُمْ »، والمعنى أنه تعالى يعلمُ سَرَائِرَكُمْ الموجودة في الأرْضِ، فيكون قوله :« وَفي الأرْضِ » صِلَةٌ لقوله :« سِرَّكُمْ ».
قال بان الخطيب : والجوابُ : أنَّا نُقِيمُ الِّدلالة أوّلاً على أنه لا يُمْكِنُ حَمْلُ هذا الكلام على ظَاهِرِهِ، وذلك من وجوه.
أحدهما : أنَّهُ قال في هذه السورة :﴿ قُل لِّمَن مَّا فِي السماوات والأرض قُل للَّهِ ﴾ [ الأنعام : ١٢ ] فَبَيَّن أنَّ كُلَّ ما في السموات والأرض، فهو مِلْكٌ لله تعالى ومملوك له فلو كان اله أحد الأشياء الموجودة في السموات لزم كونه ملك نفسه، وذلك مُحَالٌ وكذا قوله : في « طه » ﴿ لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض ﴾ [ طه : ٦ ]. فإن قالوا : كلمة [ « ما » ] مختصَّةٌ [ بمن لا يعقل ] فلا يدخل فيها ذاتُ اللَّهِ.
قلنا : لا نُسَلِّمُ بدليل قوله :﴿ والسمآء وَمَا بَنَاهَا والأرض وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴾ [ الشمس : ٥-٧ ].
وقوله :﴿ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُد ﴾ [ الكافرون : ٣ ] والمراد بكلمة « ما » ها هنا « هو اللَّهُ تعالى ».
وثانيها : أنَّ قوله :« وهُوَ الله في السمواتِ » إمَّا أنْ يكون المُرَادُ منه أنَّهُ مَوْجُودٌ في جميع السمواتِ، أو المراد أنَّهُ مَوْجُودٌ في سماء واحدة.
والثاني ترك للظِّاهِر، والأوَّلُ على قسمين، لأنَّهُ إما أن يكون الحاصل منه - تعالى - في أحد السَّمواتِ عين ما حصل منه في سائ السَّمواتِ أو غيره، والأوَّل يقتضي حُصُكول المتحيّز الواحد [ في مَكَانَيْنِ، وهو باطلٌ ببديهَةِ العَقْلِ ].


الصفحة التالية
Icon