قاله أبُو البقاء - رضي الله عنه-، والحوفي رحمه الله. وضعَّفه أبو حيان بأن « من قرن » تمييز ل « كم »، ف « كم » هي المُحَدَّثُ عنا بالإهلاكِ، فهي المُحَدَّثُ عنها بالتَّمْكينِ لا ما بَعْدَهَا؛ إذ « من قرن » يجري مجرى التَّبْينِ، ولم يُحَدَّث عنه.
وجوَّز أبو حيَّان - رحمه اللَّهُ تعالى- أنْ تكون هذه الجُمْلَةُ اسْتِئْنَافاً جواباً لسؤال مُقَدَّرِ، قال : كأنَّه قيل : ما كان من حَالِهِمْ؟ فقيل : مَكَّنَّاهم، وجعله هو الظَّاهر، وفيه نظرٌ، فإنَّ النكرة مُفْتِقِرةٌ للصِّفَةِ فَجَعْلُهَا صفة ألْيَقُ، والفَرْقُ بين قوله تبارك وتعالى :﴿ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض ﴾ وقوله :﴿ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ ﴾ [ أن « مكنة في كذا ] أثبته فيها، ومنه ﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ ﴾ [ الأحقاف : ٢٦ ] وأما مكنَّا جعل له مكاناً، ومنه :﴿ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض ﴾ [ الكهف : ٨٤ ] ﴿ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ ﴾ [ القصص : ٥٧ ].
ومثله » أرضٌ له « أي : جعل له أرضاً، هذا قول الزمخشري- رحمه الله تعالى- وأما أبو حيَّان - رضي الله عنه - فإنَّهُ يَظْهَرُ من كلامه التَّسْوِيّةُ بيهما، فإنَّهُ قال : وتعدِّي » مَكَّن « هنا للذَّوَات بنفسه وبحرف الجَرِّ، والأكْثَرُ تَعْدِيَتُهُ باللام [ نحو ] ﴿ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ ﴾ [ يوسف : ٢١ ] ﴿ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ ﴾ [ الكهف : ٨٤ ]، ﴿ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ ﴾ [ القصص : ٥٧ ].
وقال أبُو عُبَيْدَة :» مكَّنَّاهُمْ ومكَّنَّا لهم : لغتانِ فصيحتان، نحو : نَصَحْتُه، ونَصَحْتُ له « وبهذا قال أبو علي والجرحانيُّ.
قوله :» ما لم نُمكِّنْ لكم « في » ما « هذه همسة أوجه :
أحدهما : أنْ تكون مَوْصُولةَ بمعنى » الذِّي «، وهي حينئذٍ صفةٌ لموصوف محذوف، [ والتقديرُ : التميكن الذين لم نُمَكِّنْ لكم، مَحْذُوفٍ تقديره : تمكيناً ما لم نُمَكِّنْهُ لَكُمْ.
الثاني : أنها نكرةٌ صفةٌ لمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تقديره : ما لم نُمَكِّنْهُ لكم، ذكرهما الحُوفِيُّ رحمه الله تعالى.
وردَّ أبو حيَّان - رحمه الله تعالى - الأوَّلَ بأنَّ » ما « بمعنى » الذي « لا تكون صِفَةً لمعرفةٍ، وإن كان » الذي « يقع صِفَة لها، لو قلت :» ضَرَبْتُ الضَّرْبَ ما ضَرَبَ زيدٌ « تريد الضربَ الذي ضربه زَيْدٌ، لم يَجُرْ، فإن قلت :» الضَّرْبَ الذي ضربه زيد « جاز.
وَرَدَّ الثاني بأن » ما « النكرة التي تَقعُ صِفَةً لا يجوزُ حَذْفُ موضوفها، لو قلت :» قُمْتُ ما وضَربْتُ مَا « وأنت تعني : قُمْتُ قياماً ما وضربت ضرباً ما لم يَجُزْ.
الثالث : أن تكون مَفْعُولاً بها ل » مَكَّنَ « على المعنى، لأنَّ معنى مكَّنَّاهُمْ : أعطيناهم ما لم نُعْطِكُمْ، ذكره أبُو البقاءِ - C-.
قال أبُو حيَّان - C- :» هذا تَضْمِينٌ، لا يَنْقَاسُ «.
الرابع : أن تكون » ما « مَصْدريَّةً، والزَّمَان محذوف، أي : مُدَّة ما لم نمكِّن لكم، والمعنى : مُدَّةَ انْتِفَاءِ التمكين لكم.
الخامس : أن تكون نكرةً موصُوفَةً بالجملة المنفيَّة بعدها، والعائد محذوف، أي : شيئاً لم نمكِّنه لكم، ذكرهما أيضاً أبو البقاء قال أبو حيان - رحمه الله تعالى - في الأخير :» وهذا أقْرَبُ إلى الصَّوابِ «.